طبيعه الدستور
من المعروف إن الدستور يتمتع بأهمية كبيرة في حياة الدولة بشكل خاص والمجتمع المنظم بشكل عام، ويرجع ذلك بالتأكيد إلى عدة عناصر وعوامل مرتبطة بالدستور وبطبيعته الخاصة، ولكن ما يهمنا في هذه الدراسة وبالدرجة الأولى الإجابة عن التساؤل عن كون الدستور قانوناً بالمعنى الدقيق ؟
اختلف الفقه في النظر إلى الدستور كقانون ، فمنهم من شكك في مدى انطباق صفات القانون عليه وذهب قسم منهم إلى إنكار قانونية الدستور وهم لا يرون في القواعد الدستورية قواعد قانونية لعدم توفر عنصر الجزاء الذي تمسك به السلطة العامة فيها، وان الدستور في الواقع ليس إلا خطاب من السلطة إلى السلطة ولا يتصور أن يكون الإكراه مصدره إرادة المكره نفسه. وعلى هذا الأساس يذهب الفقيه(Austen) إلى إن القواعد الدستورية ليست إلا قواعد أخلاقية إيجابية تحميها مجرد جزاءات أدبية والسلطة عندما ترتكب عملاً مخالفاً للدستور يجوز أن ينعت هذا التصرف بأنه غير قانوني. حيث إن القواعد الدستورية ليست قواعد قانونية على وفق هذا المفهوم بل إنها مجرد قواعد أخلاقية( [50]). ويذهب (Austen ) بهذا الاتجاه في وصف الدستور متأثراً باتجاه المدرسة الشكلية التي تذهب إلى تحديد القاعدة القانونية في الأمر أو التكليف الذي تصدره السلطة العامة صراحة أو تقره ضمناً ويكون له جزاء تكفله السلطة العامة بما يمكن أن توقعه من أذى على من يعصي ذلك الأمر أو يخالف ذلك التكليف( [51]).
ولكن على الرغم من هذا التشكيك والإنكار لقانونية الدستور يذهب غالبية الفقه إلى إقرار قانونية الدستور ولكن هذا الاتجاه نجده قد يختلف فيما بينه في كيفية إثبات كون الدستور قانوناً . ويرجع ذلك إلى ما يختلف ويتميز الدستور به عن بقية القوانين العادية، فهناك من يؤسس قانونية الدستور على أساس طبيعة قواعده وما تمتاز به من صفة الاعلوية على بقية القواعد القانونية وما يترتب على ذلك من خضوع بقية القواعد إلى الدستور على وفق نظام تدرج هرمي يقوم عليه البناء القانوني في الدولة، حيث يجب أن تخضع القوانين كافة للدستور وليس من المنطق أن تخضع هذه القوانين لشيء لا يتصف بصفة القانون( [52]). في حين يذهب الأستاذ (Marcel Waline ) إلى تأسيس قانونية الدستور على أساس فكرة إرادة الأفراد في الدولة ، إذ إن الأفراد يقبلون الدستور كقانون وذلك إيماناً منهم بضرورة ذلك من أجل مصلحة الأمة( [53]).
وهناك من يذهب إلى تأسيس قانونية الدستور على الدستور نفسه باعتباره قانوناً تتوافر فيه صفات القانون بالأصل، ويكون ذلك من خلال المقارنة الدقيقة والعملية بين القاعدة القانونية بشكل عام والقاعدة الدستورية، حيث نجد إن عناصر القاعدة القانونية متوافرة في القاعدة الدستورية من حيث محتوى القاعدة أي الأمر أو التكليف وصدوره من سلطة معينة ، وأما فيما يتعلق بالجزاء وهو الذي استند إليه بعض الفقهاء في إنكارهم لقانونية الدستور فإن حقيقة الأمر هي إن مخالفة القاعدة الدستورية قد يرتب جزاءً من السلطة العامة، وإذا لم يكن الأمر كذلك أحياناً نجد في حالات أخرى إن هناك رد فعل اجتماعي عنيف يترتب على السلوك المخالف للدستور، وقد يصل رد الفعل هذا إلى حد الثورة ضد مخالفة القاعدة الدستورية، ويتزعم هذا الاتجاه العميد (Duguit) صاحب نظرية التضامن الاجتماعي التي تذهب إلى الربط بين السلطة والقانون على أساس الربط بين السبب والنتيجة،وإن القانون قد يسبق في وجوده وجود السلطة العامة، وإن هذه النظرية لا تنكر إن الجزاء هو عنصر من عناصر القاعدة القانونية ولكنها لا تربط بين الجزاء وفكرة القهر الذي تفرضه السلطة، بل إنها تذهب إلى إن الجزاء موجود أساساً على شكل رد الفعل الاجتماعي ضد مخالفة القاعدة القانونية التي هي إفراز اجتماعي في الأساس( [54]). وفضلاً عما تقدم يذهب الدكتور يحيى الجمل إلى إن عنصر الجزاء في القاعدة القانونية يجب أن ينظر إليه نظرة أكثر اتساعاً وعمقاً من مجرد كونها تعبيراً عن القهر المادي الذي تفرضه السلطة العامة. وإن فكرة الجزاء تختلف بين فروع القانون المختلفة، وهي لا تختلف مجرد اختلاف في الدرجة بل إنها تختلف في الطبيعة أيضاَ، إذ إن فكرة الجزاء في القانون المدني لاتحركها في الأغلب الأعم إلا إرادة الأفراد في واجهة بعضهم ، في حين إن الجزاء في قانون العقوبات تحركه الإرادة العامة ، ونوع الجزاء في الحالة الأولى يختلف عنه في الحالة الثانية. كما إن الجزاء في الحالة الأولى قد يكون تعويضاً بمبلغ من المال أو إعادة الحال إلى ما كان عليه، أما في الحالة الثانية فقد يكون سجناً أو حكماً بالإعدام ، أي إنه ليس للجزاء صورة واحدة أو طبيعة واحدة في فروع القانون المختلفة، وعلى هذا الأساس يذهب الدكتور (يحيى الجمل) إلى إن الجزاء في القانون الدستوري ليس بالضرورة أن يتخذ صورة الجزاء أو شكله في فروع القانون الأخرى بل إنه يمكن أن يتخذ شكلاً آخر ومثال ذلك الرأي العام( [55]).
ونرى إنه ليس هناك حاجة للإطالة فيما يتعلق بإثبات قانونية الدستور، حيث إن الأمر يعد متحققاً ويمكن أن نلمس ذلك من خلال تفحص طبيعة الدستور من الناحية المادية، حيث نجد إنه عبارة عن مجموعة قواعد تهدف إلى تحقيق تنظيم معين لعلاقات معينة ذات خصوصية وهذا وصف يتفق وطبيعة القانون بشكل عام المتمثلة بالتنظيم. ومن ناحية أخرى إذا تفحصنا طبيعة القاعدة الدستورية نجد إنها تتفق وطبيعة القاعدة القانونية بشكل عام ، حيث إن القاعدة القانونية يجب أن تكون قاعدة تتضمن الأمر بالقيام بعمل معين أو الامتناع عن القيام بعمل معين وأن تكون هذه القاعدة صادرة عن جهة أو سلطة قادرة على العمل على أن تسير القواعد التي تصدرها نحو التطبيق. وإذا كان هناك رد على كون ما تتضمنه القاعدة الدستورية من الأمر بالقيام بعمل معين أو الامتناع عن القيام بعمل معين بأن هذا الأمر سواء الإيجابي أو السلبي صادر عن الحكام وموجه إليهم، أي ليس أمراً صادراً عن جهة معينة وموجهاً إلى جهة أخرى وهو ما يشترط في القاعدة القانونية العادية، حيث تكون هذه القاعدة صادرة عن الحكام وموجهة إلى المحكومين، فإن الأمر بالنسبة إلى القاعدة الدستورية أصلاً ذات طبيعة خاصة قياساً على كون القاعدة الدستورية أصلاً ذات طبيعة خاصة، حيث إن الظاهر يفيد بأننا أمام قاعدة صادرة عن الحكام وموجهة إليهم في نفس الوقت سواء بخصوص تنظيم السلطة أو حقوق الأفراد أو تحديد فكرة القانون في الدولة، حيث إن الحقيقة ذات الخصوصية قائمة على أساس طبيعة الدستور القائمة على أساس فكرة الدستور الأساسية المرتبطة بفكرة سيادة القانون التي تفيد بخضوع كل من في الدولة وكل ما فيها من علاقات للقانون. أي كون الدستور يتخصص بإخضاع الحكام وتصرفاتهم للقانون، ولكن الكيفية بالنسبة إلى الدستور تكون على أساس تقييد الحكام لأنفسهم ولمن يأتي بعدهم إلى الحكم وذلك تحقيقاً للمصلحة العامة للدولة، حيث إن فكرة الأمر الإيجابي أو السلبي الموجهة من السلطة إلى الغير(المحكومين) ترتب في حقيقة الأمر التزاماً على عاتق الغير بالقيام بعمل معين أو الامتناع عن القيام بعمل معين ، أي إن الأمر الإيجابي أو السلبي يرتب التزاماً على المحكومين ويقيد من إرادتهم بإرادة السلطة تحقيقاً للمصلحة العامة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحكام المخاطبين بأحكام الدستور إذ يتضمن ترتيب التزامات على عاتقهم ولكن مصدر هذه الالتزامات يكون إرادتهم تحقيقاً للمصلحة العامة، وهذه الخصوصية في التقييد تقتضيها القاعدة الدستورية .
وإذا كان الدستور قانوناً، وإذا كان هذا القانون ذا خصوصية فلماذا هذه الخصوصية لقانون الدستور؟ يمتاز الدستور كقانون بطبيعة خاصة تمنحه أهمية مميزة عن غيره من القوانين الموجودة في البناء القانوني للدولة، ونستطيع أن نلتمس ذلك فيما يعنينا في هذه الدراسة من خلال استذكارنا ما تناولناه سابقاً عند الحديث عن موضوعات الدستور، حيث وجدنا إن الدستور يتناول موضوعات ذات أهمية كبيرة ومؤثرة في حياة الدولة إذ إنه من المعروف إن موضوعات تنظيم السلطة وحقوق الأفراد وتحديد فكرة القانون في الدولة تعد من أهم الموضوعات في الدولة وإن النصوص التي تتناولها تعد من أهم وأخطر النصوص القانونية. حيث إنه من المؤكد إن تناول مثل هذه الموضوعات له أهمية ويحتاج إلى خصوصية تختلف على سبيل المثال عن تنظيم علاقات معينة بين الأفراد كالعلاقات الاجتماعية أو المالية ، أو إن العلاقات التي ينظمها الدستور تكون لها صلة بالدولة ككل بخلاف علاقات أخرى قد تكون ذات تأثير بسيط أو غير ملموس على الدولة بشكل عام .
فضلاً عن ذلك فإن الاختصاص الموضوعي للدستور يترتب عليه إن الأشخاص المخاطبين بأحكامه يختلفون عن الأشخاص المخاطبين بأحكام القوانين العادية، حيث إن أحكام الدستور تخاطب فئة الحكام في الدولة، ومن المعروف إن هذه الفئة لها أهمية ودور كبير في تنظيم نشاط الدولة والعلاقات المهمة فيها بشكل عام.
وأمام هذه الخصوصية والأهمية لقانون الدستور نتساءل عن الخصوصية القانونية للقاعدة الدستورية أو الخصوصية القانونية للدستور بالمقارنة مع بقية القواعد القانونية أو القوانين في البناء القانوني للدولة؟
يترتب على خصوصية الدستور نتيجة قانونية مفادها إن قانون الدستور يتمتع بالسمو على بقية القوانين الأخرى في الدولة، وهو ما يعرف بسمو الدستور( [56]). أو أولوية الدستور( [57]). أو علو أو أعلوية الدستور( [58]). أو سيادة الدستور( [59]). ويقصد بهذا المفهوم إن الدستور يتمتع بمكانة خاصة تسمح له بأن يعلو على مجموع القواعد القانونية الأخرى سواء كانت تشريعية أو ترتيبية، بحيث تكون هذه القواعد خاضعة للدستور على مستوى الأصل وعلى مستوى الشكل( [60]). ولكن ماهو الأساس القانوني لهذا العلو أو هذه المكانة القانونية الخاصة بالدستور؟