108- تمهيد وتقسيم :
إذا كنا قد فرغنا للتو من التأكيد على استبعاد التفسير الأحادي للجريمة ، مفضلين أن نتبع في تحليل الظاهرة الإجرامية منهجاً تكاملياً ، يعتمد على تعدد أو تكامل عوامل تلك الأخيرة Constellation des facteurs ، وتوزعها بين عوامل فردية داخلية وأخرى اجتماعية خارجية ، فإنه من المؤكد أن العوامل على تنوعها – وكما سبق القول – لا تتساوى فيما بينها في الدفع نحو الجريمة. مما يستوجب منا أن نطرح على بساط البحث بشكل تحليلي العوامل الإجرامية Facteurs criminogènes من أجل الكشف عن القوة النسبية لبعض العوامل في تخليق الظاهرة الإجرامية ، في محاولة لتوقع مسار الجريمة في المستقبل أو العودة لها ، وتعين وسائل المكافحة الفعالة لها.
على أنه يجب الإقرار مسبقاً بعدم وجود حتمية Déterminisme لوقوع الجريمة على أثر توافر عامل أو مجموعة عوامل معينة ، كل ما هنالك أن بعض العوامل قد يكون لازماً وضرورياً من أجل إحداث تفاعل لكتلة ظروف يترتب عليها في النهاية حدوث الجريمة. وهذا الإقرار ينبع من أن بعض عوامل الجريمة قد لا تكون ذات صبغة إجرامية في ذاتها ، بل قد تكون مشروعة في ذاتها. فالسن والجنس والعنصر والظروف الجغرافية رغم أنها تدرس ضمن عوامل الجريمة إلا أنها بذاتها ليست مولدة للإجرام Criminogène بل هي عوامل محايدة ، وكل ما هنالك أن دراسة عوامل الجريمة إنما هي دراسة للارتباطات Corrélation بين متغيرات Facteurs عديدة لا يكون لبعضها قوة ذاتية في إيقاع الجريمة .
ومن هنا فليس للجريمة عامل بذاته ، كما أن عوامل الظاهرة الإجرامية لا تعبر عن أسباب تلك الظاهرة أو أسباب السلوك الإجرامي. ففكرة السببية Causalité المعروفة في العلوم الطبيعية لا تسري بذاتها في مجال علم الإجرام. ففي العلوم المنضبطة يعني السبب الظرف الذي بتوافره تحدث نتيجة معينة وبتخلفه تتخلف تلك النتيجة. وفي حالات معينة قد يكون السبب كافياً Cause suffisante لحدوث النتيجة ، وفي أخرى قد يكون ضرورياً Cause nécessaire لحدوثها ، وفي حالات مغايرة قد يكون ضرورياً وكافياً. أما في الدراسات الإجرامية فلا يمكن أن يوجد سبب ضروري وكاف لوقوع الجريمة ، بل يمكن فقط أن يوجد سبب ضروري لوقوع الجريمة إذا ما تفاعلت مع عوامل أخرى .
وعلى ذلك يحل – في مجال علم الإجرام - محل السببية العلمية سببية أخرى اجتماعية تعبر عن احتمالية وقوع الجريمة على أثر توافر ظرف معين. وهكذا يمكن أن يعرف العامل الإجرامي بأنه حالة (أي كل ما يتميز بالثبات كالسن والضعف العقلي…الخ) أو واقعة (كل ما يتسم بالحركة كفقد الأبوين أو الزوج) ذات صلة سببية بالظاهرة الإجرامية ، أو أنه كل عنصر موضوعي أو متغير ذو ارتباط كمي أو كيفي بتلك الظاهرة .
ولما كانت الظاهرة الإجرامية – وفق التقسيم الأكثر شيوعاً في الفقه للعوامل الإجرامية - نتاج اجتماع عوامل فردية (ترجع إلى التكوين البدني والعقلي والنفسي للمجرم) وأخرى خارجية (ترتبط بالوسط البيئي الذي يعيش فيه الفرد) ، فإننا سوف نتناول هذين النوعين على الترتيب كل في فصل على حدة.
الفصل الأول
العوامل الفردية للظاهرة الإجرامية
109- تقسيم :
تتنوع في الحقيقة العوامل الفردية للسلوك الإجرامي ، ويمكننا أن نذكر من بينها التكوين الطبيعي للمجرم ، الوراثة الإجرامية ، المراحل العمرية ، السلالة أو العرق ، الجنس أو النوع ، الأمراض ، إدمان الخمور والمخدرات. ولكل عامل من تلك العوامل سوف نخصص مبحثاً مستقلاً.
المبحث الأول
التكوين الطبيعي للمجرم
110- تمهيد وتقسيم :
يقصد بالتكوين الطبيعي للمجرم الخصائص والصفات الخلقية التي تصاحب الشخص منذ ولادته ، سواء ما يتعلق بتكوينه العضوي أو العقلي أو النفسي.
ولقد سبق وأن أبرزنا دور العلامة الإيطالي لومبروزو في تنبيه الأذهان إلى علاقة التكوين العضوي للفرد بالسلوك الإجرامي ، معلناً وجود ما أسماه المجرم بالتكوين أو المجرم بالميلاد. وأشار إلى أن المجرمين لهم صفات بيولوجية جسدية ونفسية تميزهم عن الأشخاص العاديين ، وأن توافر هذه الصفات في شخص معين لابد وأن تقوده حتماً إلى الجريمة.
وقد أشرنا من قبل إلى أن نظرية المجرم بالفطرة أو بالميلاد التي قال بها لومبروزو قد انتقدت ، ويكفي الإشارة هنا إلى أن الجريمة كما سبق أن ذكرنا مخلوق قانوني اصطنعه المشرع ، بحيث لا يتصور القول بأن توافر صفات بيولوجية معينة في الشخص هي التي تدفعه إلى ارتكاب السلوك الإجرامي ، ذلك أن تلك الصفات كانت موجودة فيه قبل إصباغ وصف الجريمة على فعله المرتكب .
ومن بعد جاء العالم الأمريكي هوتون Hooton – في مؤلفه "الجريمة والإنسان Crime and the Man" الصادر عام 1939 والذي أعاد طباعته باسم "المجرم الأمريكي The American Criminel" – منتهياً في أبحاثه إلى أنه لا توجد صفات عضوية معينة كتلك التي ذكرها لومبروزو تميز المجرمين عن غير المجرمين. وكل ما ثبتت ملاحظته أن المجرم عادة ما يكون أقل وزنا في المعتاد من الشخص العادي وأقل في القامة ، خاصةً بالنسبة لطائفة اللصوص التي تبتعد كثيراً عن الشخص العادي إذا ما قورنوا بمرتكبي جرائم النصب. وإلى هذا سبق وانتهى العالم الإنجليزي تشارلز جورنج Goring.
ولقد توصل العالمان الأمريكيان وليام شلدون جلوك Sheldon Glueck وزوجته إليانور جلوك Eleanor Glueck – أستاذة الأنثروبولوجيا بجامعة هارفارد وزميلا هوتون - إلى نتائج مغايرة من خلال دراستهم التي شملت نحو خمسمائة من كبار المجرمين ومقارنتهم بمجموعة ضابطة من الأشخاص العاديين. فقد أشارت الدراسة إلى أن 60% من المجرمين المعتادين يتميزون بقوة البدن مقابل 31% من الأشخاص غير المجرمين ، وأن 14% من المجرمين مقابل 31% من غير المجرمين يتميزون بالضعف ، الأمر الذي يقطع بأن الخصائص البدنية وحدها لا يمكن أن تكون الفيصل الذي يميز المجرمين عن غير المجرمين .
وهكذا لم يثبت وجود علاقة بين التكوين العضوي والسلوك الإجرامي ، بل على فرض وجود تلك العلاقة فمن الخطأ اعتبارها سبباً مباشراً للجريمة. فالجريمة لا تعبر عن صفات تشريحية أوعيوب عضوية بقدر ما تعبر عن شخصية إجرامية في نواحيها العقلية أو النفسية.
وفي ضوء ذلك فإننا سوف نكتفي بما سبق في شأن العلاقة بين التكوين الطبيعي العضوي ، قاصرين دراسة التكوين الطبيعي لشخص المجرم على بعض العوامل التي قيل بصلتها بالسلوك الإجرامي ، وهي على الترتيب ، الخلل في وظائف الأعضاء ، والشذوذ الغريزي ، ومستوى الذكاء.
المطلب الأول
الخـلل فـي وظـائـف الأعـضـاء
ربط بعض علماء الإجرام – وعلى رأسهم كما أشرنا من قبل بندا ودي توليو وماكس شلاب ولويس برمان - بين الخلل في وظائف أجهزة الجسم الداخلية ، كالجهاز العصبي والجهاز التناسلي والجهاز الدوري ، وبين السلوك الإجرامي. ولعل أهم ما أشير إليه في هذا الصدد هو الربط من ناحية بين خلل الجهاز الغددي وبين السلوك الإجرامي ، ومن ناحية أخرى بين الأمراض التي تصيب الجسم وأجهزته وبين هذا الأخير.
111- أولاً : خلل الجهاز الغددي :
الغدد ، وفق ما يقرره علماء الطب ، نوعين : غدد قنوية وغدد صماء Ductless glands. وتشتمل الغدد القنوية على قنوات تنقل عن طريقها افرازات معينة ، إما إلى داخل الجسم كالغدد اللعابية أو الكبد والبنكرياس ، وإما إلى خارجه كالغدد العرقية والدمعية والدهنية.
أما الغدد الصماء فلا تشتمل على قنوات خارجية ، بل تقوم بتحويل المواد الغذائية التي ينقلها إليها الدم إلى هرمونات كي تعيد نقلها مرة ثانية إلى الدم الذي يوزعها بدوره على الجسم. والغدد الصماء تضم : الغدة الدرقية Thyriod الموجودة في مقدمة الجزء الأسفل من الرقبة على جانبي القصبة الهوائية ، والغدة المجاورة لها Parathyroid ، والغدة النخامية Pituitary الموجودة في مؤخرة الرأس ، والغدة الصنوبرية Pineal التي توجد في وسط المخ في أعلى اتجاه العمود الفقري ، والغدة الكظرية Surrenal أو الادرينالية Adrenals ، والغدد الجنسية Sex glands.
وقد خلص علماء الإجرام إلى أن افرازات الغدد الصماء له أثر كبير على السلوك الإجرامي. ذلك أن افرازات هذه الغدد تؤثر تأثيرا مباشراً على الكفاءة الوظيفية لأجهزة الجسم المختلفة ، التي تؤثر بالسلب على التكوين العضوي والنفسي للفرد ، مما يجعله سهل الاستجابة للمؤثرات الخارجية ، ومن ثم يسهل ترديه في سبيل الجريمة.
وعلى سبيل المثال فإن ازدياد افرازات الغدد الدرقية يؤدي إلى الاندفاع الشديد والقلق والشعور بعدم الاستقرار والتوتر العصبي مما يدفع الشخص إلى ارتكاب جرائم الاعتداء على الأشخاص ، في حين أن قلة إفرازها يؤدي إلى الخمول الذهني وإلى نوع من البلادة الذهنية عند الأطفال في بعض الأحيان وإلى فقدان الذاكرة في الحالات المرضية الشديدة.
كما تبين أن النقص في افرازات الغدد النخامية يؤدي إلى شعور أصحابها بالجبن والانعزالية والانطواء. كما قد يؤدي ذلك إلى اضطرار بعض الفتيات إلى الانحراف الخلقي عندما يبحثن عن الصلة بالجنس الأخر كنوع من التعويض العاطفي بسبب إحساسهن الدفين بالنقص.
كما تبين أيضا أن زيادة إفراز الغدة فوق الكلية لمادة الأدرينالين يؤدي إلى تمتع الشخص بقدرة عالية على التركيز والاستجابة ، بعكس ما لو نقص هذا الإفراز.
ويعتقد البعض من أطباء النفس وعلماء السيكولوجية الهرمونية Psychoendocrinology أن ضمور الغدة الصنبورية في بداية مرحلة المراهقة يمنع من النضج الجنسي الطبيعي ، وأن ورم الغدة الصنبورية قد يؤدي إلى النضج الجنسي قبل الأوان ، الأمر الذي يؤثر في الحالتين على الناحية النفسية للفرد.
والواقع أنه لا يجب التسرع في الربط بين الخلل في وظائف الغدد وبين السلوك الإجرامي ، ذلك أن كثير من الغدد يفرز أكثر من هرمون والهرمونات المفرزة من كل غدة تتأثر بدورها بما تفرزه الغدد الأخرى ، والجهاز العصبي بدوره يؤثر في هذه الافرازات ويتأثر بها. فضلاً عن أن غموضاً ما زال يكتنف علم وظائف الغدد ومدى تأثير افرازات هذه الغدد على نمو الإنسان ونضجه وحالته العضوية والنفسية والعقلية.
112- ثانياً : الأمراض العضوية :
يقصد بالمرض العضوي الخلل الذي يصيب أحد أجهزة الجسم. ولقد كشفت الدراسات عن أن هناك من الأمراض العضوية ما يرتبط بالسلوك الإجرامي ، ومنها على الأخص : الزهري ، السل ، الحميات ، إصابات الرأس والتهابات أغشية المخ .
فلقد ثبت أن ميكروب مرض الزهري Syphilis يحدث لدى المصاب به اضطراباً في الجهاز العصبي مما يجعله عرضة للإصابة بأحد الأمراض العقلية كالشلل الجنوني العام والصرع ، أو عرضة للتقلبات المزاجية وعدم اتساق الأفكار. كما ينتج عن هذا المرض آثاراً نفسية تضعف لدى المصاب به السيطرة على رغباته وكبح جماح نفسه ، فيسهل انقياده لسبيل الجريمة.
كما أكد البعض وجود صلة بين مرض السل Tuberculose والسلوك الإجرامي. والقول بذلك إنما مرجعه ما يسببه المرض من ضعف في قدرة الشخص على التحكم والسيطرة على غرائزه وميوله وشدة حساسيته وسرعة استجابته للمؤثرات الخارجية. ويحدث مرض السل بصفة خاصة خللاً في الغريزة الجنسية ، مما يدفع المريض به إلى ارتكاب جرائم هتك العرض والاغتصاب.
ولقد دلل دي توليو على أنه يوجد من بين كل ألف سجين ما لا يقل عن 203 منهم مصاب بمرض السل. كما أثبت العالم البلجيكي فيرفاك Vervaeck أن 10% من بين 1613 سجين بلجيكي ينتمون إلى اسر مصابة بالسل ، وانتقل المرض بين أبنائها عن طريق الوراثة لإصابة أحد الأبوين به.
كما أن الإصابة ببعض الحميات يمكن أن يتسبب في إحداث بعض الاضطرابات في الإدراك والإرادة ، كاضطراب الذاكرة وشرود الذهن التفكير والهذيان. ومن بين الحميات التي يمكن أن تحدث خللاً في الجانب الإرادي للشخص الملاريا والتيفود والحمى الشوكية أو الحمى المخية. ولعل هذا النوع الأخير هو الأخطر من بينها ، إذ تنال من صفات الشخصية فتغير في طباعها وانفعالاتها وتنال من القدرة على التحكم في الغرائز والميول. وهكذا يمكن أن يقدم المصاب بها على ارتكاب أشد أنواع الجرائم خطورة كالقتل والعاهات المستديمة والسرقة بالإكراه والجرائم الجنسية.
وتأتي إصابات الرأس والتهابات في أغشية المخ كأحد العوامل التي قد تقف وراء الظاهرة الإجرامية لما تحدثه هذه الإصابات والالتهابات من اختلالات نفسية وتغيرات حادة في الشخصية. وعادة ما تكون هذه الإصابات مرتبطة بخلل أو مرض أصاب الأم في فترة الحمل. ولعل هذا يقف وراء اختلاف السلوك الإجرامي للتوائم المتماثلة رغم وحدة الظروف البيئية ، على ما سنرى فيما بعد.
وبصفة عامة يجب التحرز من اطلاق القول بالصلة الحتمية بين السلوك الإجرامي وبين المرض العضوي ، ذلك أن تلك الصلة ما زالت محل شك نظراً لأن ما أجرى من بحوث في هذا الصدد كان قد تم على نزلاء السجون بما لا يقطع ما إذا كان المرض سابقاً على دخول المؤسسة العقابية أم لاحقاً عليها.
المطلب الثاني
الــشــذوذ الــغــريــزي
113- تمهيد :
الغرائز هي مجموعة من الميول الفطرية غير الواعية الكامنة في النفس البشرية ، والتي توجه السلوك الإنساني وجهة معينة.
ويمكن تقسيم الغرائز إلى نوعين رئيسيين هما غريزة حفظ أو حب الذات Instinct de conservation والغريزة الجنسية أو غريزة حفظ النوعInstinct de reproduction. ويتفرع عن هذين النوعين غرائز فرعية بعضها نفسي وبعضها بيولوجي أو حيوي. فيتفرع عن غريزة حب الذات غريزة الاقتناء ، وغريزة طلب التغذية ، وغريزة الفضول ، وغريزة حب السيطرة أو تأكيد الذات ، وغريزة الهرب ، وغريزة الاقتتال والدفاع ، وغريزة الخضوع. ويتفرع عن الغريزة الجنسية غريزة التناسل وغريزة الأبوة أو الأمومة.
ويذكر أن هناك صلة بين الاضطرابات الغريزية والسلوك الإجرامي ، ذلك أن أي اضطرابات تصيب الغرائز تؤثر بالضرورة على السلوك الإنساني بحسبانها تمثل الدافع أو المحرك لهذا الأخير. فالغرائز هي المعبر الحقيقي عن أغوار النفس الإنسانية ، وهي التي تقف دائما وراء الأفعال أيا كانت صورتها ، ومنها الأفعال الإجرامية .
وللشذوذ الغريزي صور ثلاث : فقد يتمثل في ازدياد قوتها عن الحد الطبيعي ، وإما أن يتمثل في ضعفها عن هذا الحد ، وإما أن يتمثل في انحرافها عن اتجاهها الطبيعي.
وسوف نبين فيما يلي أوجه الشذوذ أو الاضطراب الذي يصيب النوعين الرئيسيين من الغرائز ، قبل أن نعرض لصلة الشذوذ الغريزي بالسلوك الإجرامي.
114- أولا : الشذوذ في غريزة حب الذات :
يؤدي الاضطراب في غريزة حب الذات إلى ارتكاب جرائم الاعتداء على الأموال. فسبق القول أن غريزة الاقتناء أو التملك Instinct de propriété من الغرائز التي تتفرع عن غريزة حب الذات. فانحراف هذه الغريزة قد يدفع الشخص إلى سرقة أشياء تافه - وخاصة من المحلات التجارية – رغم قدرته على إشباعها بطريق مشروع ، وهو ما يعبر عنه بجنون السرقة أو الكليبتومانيا Kleptomanie. وقد يتمثل انحرافها في البخل الشديد الذي يدفع صاحبه لارتكاب جريمة التسول رغبة في جمع الأموال.
وقد يتخذ انحراف غريزة الاقتناء صورة الإسراف على النفس فيما يسمى بجنون الشراء أو الأونيومانياOwniomanie ، أي شراء الشخص أشياء ليس حاجة لها ، أو صورة الإسراف على الغير فيما يسمى بجنون الإهداء أو الدونرمانياDonormanie ، أي تقديم الهدايا أيا كانت قيمتها بدون مناسبة تستدعي ذلك. ورغبة في الحصول على المال لتحقيق كلا الأمرين قد يندفع الشخص في تيار جرائم السرقة أو النصب أو الرشوة أو الاختلاس...الخ.
والطمع Cupidité احدى أنماط شذوذ غريزة حب الذات ، فهذا الخلل يدفع صاحبه لمحاولة الاستئثار بأموال الغير ، وفي سبيل ذلك قد يرتكب جرائم عديدة ، أو يعتاد المقامرة وهي تكون أيضاً جريمة في بعض التشريعات.
ومن الغرائز التي تتفرع عن غريزة حب الذات غريزة التغذية وانفعالها الجوع. فشذوذ هذه الغريزة قد يتخذ صورة نهم أو شره تدفع بصاحبها – وخاصة لدي مرضي العقول - إلى سرقة بعض المأكولات أو المشروبات أو بعض النقود لإشباع هذه الرغبة ، وغالبا ما يتمثل هذا الشذوذ في الميل نحو تناول مواد غريبة بديلاً للطعام كالطين أو الزجاج أو الفضلات. وقد يتخذ انحرافها صورة الإفراط في تناول المخدرات أو الخمور.
ومما يتفرع عن غريزة حب الذات غريزة الاقتتال والدفاع ، وقد يدفع شذوذ هذه الأخيرة إلى ارتكاب جرائم الاعتداء على الأشخاص من ضرب أو جرح أو قتل. وقد يصاب من يتوافر فيه هذا الخلل بما يسمى جنون الحريق Pyromanie ، أي حرق كل شئ يتخيل له أنه يمثل خطراً يهدد كيانه.
وقد ينحرف لدى الشخص شعوره الذاتي تجاه شخصه Sentiment de personnalité. فإذا ما اتخذ هذا الانحراف صورة مفرطة للاعتزاز بالنفس فقد يصاب الشخص بأمراض نفسية كجنون العظمة Paranoia وجنون الكذب Mythomanie ، ويظهر ذلك جلياً في مرتكبي جرائم النصب. وإذا ما تخلف هذا الشعور الذاتي فحتما ينقلب الشخص إلى صور إنسانية متشككة وانطوائية مما قد يدفعه أحياناً للانتحار أو الاعتداء على من يشك فيه (كعدوان بعض الأزواج على زوجاتهم شكاً في سلوكياتهم على نحو خاطئ).
115- ثانيا : الشذوذ في غريزة حفظ النوع :
لعل الشذوذ الغريزي المتصل بغريزة حفظ النوع أو الغريزة الجنسية من أكثر أنواع الشذوذ صلة وثيقة بالسلوك الإجرامي. ويتخذ الشذوذ في هذه الغريزة صوراً ثلاث : ولع أو هياج جنسي ، انحراف جنسي ، ضعف جنسي.
فإذا ما اتخذ شذوذ الغريزة الجنسية صورة الزيادة المفرطة فيما يسمى بالهياج أو الولع الجنسي Erotomanie ، أي سرعة الاستثارة فقد يندفع صاحبه رجلاً كان أم امرأة إلى ارتكاب جرائم الاغتصاب وهتك العرض والأفعال المخلة بالحياء.
أما إذا ما اتخذ الشذوذ في الغريزة الجنسية صورة الانحراف الجنسي" Déviation sexuelle فقد يندفع الشخص إلى ارتكاب جرائم العرض أو قتل العشيق أو التعذيب أو الاغتصاب. وقد يؤدي هذا الانحراف إلى إتباع أساليب شاذة حال التعبير عن الرغبة الجنسية. ومن أهم صور هذا الانحراف المرض المعروف باسم السادية Sadisme أو التعذيب الجنسي ، أي رغبة الشخص في إلحاق الأذى بالطرف الأخر وإيلامه ، بحسبان أن هذا الإيذاء أو الإيلام هو المثير الوحيد لغريزته الجنسية. وقد يكون هذا الإيلام سابقاً أو معاصراً أو لاحقاً على الاتصال الجنسي. بل قد يكون أحياناً بديلا عن هذا الاتصال في الحالات التي يشبع فيها الشخص غريزته الجنسية عن طريق إزهاق روح الغير أو تعذيبه دون إتيان أي اتصال جنسي حقيقي.
وتمثل الماسوكية Masochisme ، أي استعذاب القسوة والألم حال الممارسة الجنسية ، أحد صور انحراف الغريزة الجنسية. فالشخص المصاب بها يسعى إلى الحصول على شعور بالارتياح عن طريق تحمل العذاب الناجم عن أفعال تنطوي على المساس بسلامة جسمه ينزلها به شخص معين. فهذا الألم هو السبيل الوحيد للحصول على الإشباع الجنسي.
وقد تؤدي الاضطرابات في الغريزة الجنسية إلى انحراف الميل الجنسي عن اتجاهه الطبيعي ، ومن أمثلة ذلك المثلية الجنسية Homosexualité ، أي الميل لممارسة اللواط بين الرجال أو المساحقة بين النساء ، والميل الجنسي نحو الأقارب والمحرمات Inceste ، والميل الجنسي نحو الحيوان ou Zoophilie Bestialité ، والميل الجنسي نحو الأطفال Pédophilie ، أو الميل لمواقعة جثث الموتى Nécrophilie. ومن صور هذا الانحراف أيضاً الميل الجنسي نحو الرمز Transvestisme ، أي الميل للارتداء الملابس الداخلية للجنس الأخر أو وضع خصلات الشعر أو استعمال أدوات الماكياج ، سواء قبل أو أثناء الاتصال الجنسي. وقد يأخذ الانحراف صورة الجنسية المضادة Transsexualité ، أي التعارض بين الفرد وجنسه كما يدركه عقلياً وبين شعوره الجنسي الحقيقي. فهو مثلاً يعلم أنه ذكر ولكنه يشعر بأنه أنثى.
ويفسر لنا فقدان الغريزة الجنسية أو فتورها أو عدم كفايتها إتيان بعض الأفعال الجنسية كالعرض الجنسي Striptease (Exhibitionnisme) أو التلصص الجنسي Voyeurisme.
كذلك فإن الشذوذ في غريزة الأمومة أو الأبوة المتفرعة عن الغريزة الجنسية قد يفسر لنا استعمال القسوة وسوء المعاملة مع الأطفال بحجة تأديبهم. وقد يفسر لنا انحراف غريزة الأبوة على وجه الخصوص ارتكاب الآباء لجريمة قطع النفقة أو الهجر العائلي Abandon de famille ، أو ما يصدر منهم من إنكار نسب أو الإهمال في الواجبات الأسرية.
116- ثالثاً : الصلة بين الشذوذ الغريزي والسلوك الإجرامي :
في الواقع أن ما تقدم لا يقطع بوجود علاقة حتمية بين الشذوذ الغريزي والسلوك الإجرامي ، فهذه العلاقة تقوم فقط عندما يكون اضطراب الغريزة أو شذوذها هو الدافع إلى سلوك طريق الجريمة. فالميل ناحية فعل معين لا يعني حتمية وقوعه La tendance à l’action n’implique pas la fatalité de l’action. فالصلة إذا بين الأمرين صلة احتمالية بحيث لا يمكن تفسير الظاهرة الإجرامية على مجرد التكوين الغريزي للفرد ، فالأمر يتوقف على مشاركة عوامل أخرى بعض منها فردي وبعض منها اجتماعي.
فقد يتوافر لدى شخص ما اضطراب أو شذوذ غريزي دون أن يؤدي ذلك إلى ارتكاب الجريمة ، ويتحقق ذلك عندما يتوافر لدى الشخص غريزة أخرى سامية يستطيع هذا الشخص من خلالها السيطرة على سلوكه وكبح جماح غريزته الشاذة أو المنحرفة.
ومن ناحية أخرى قد لا يكون الشخص مصاباً باضطراب أو شذوذ غريزي ومع ذلك نراه يرتكب السلوك الإجرامي بفعل عوامل أخرى فردية أو اجتماعية. ومن قبيل ذلك من يرتكب جريمة من جرائم العرض أو يأتي أفعال جنسية شاذة تحت تأثير الخمر أو لضعف عقلي أو خلل في الشعور. وهذا بالفعل ما أثبتته دراسة في أجريت في السويد على مرتكبي الاتصال الجنسي بالمحارم ، إذ تبين أن عدد كبير منهم يعاني ضعفاً عقلياً وأكثرهم ينتمي إلى الطبقات الدنيا في الأحياء المكدسة سكانياً التي تعاني "الأسودين" الجهل والفقر.
وأخيراً فقد تصدر عن الشخص تصرفات جنسية شاذة دون أن يعبر ذلك عن انحراف حقيقي للغريزة الجنسية. فالميل نحو ذات الجنس - وإن بدا شذوذا غريزياً - قد يكون مجرد بديل عن إشباع الغريزة الجنسية بالشكل الطبيعي إذا لم تكن هناك وسيلة مشروعة لإشباعها ، الأمر الذي يحدث في الأماكن التي يجتمع فيها حشد كبير من نفس الجنس ، كالمدارس الداخلية والسجون والثكنات العسكرية. لذا فسرعان ما تختفي هذه التصرفات الجنسية الشاذة بزوال الدافع إليها. كما أن الميل نحو الأطفال الذي يظهر بالنسبة للمراهقين في فترات البلوغ قد لا يعبر عن شذوذ غريزي بقدر ما يعبر عن مجرد حب استطلاع لكوامن غريزة نضجت مبكراً.
المطلب الثالث
مــســتــوى الــذكــاء
117- أولاً : المقصود بالذكاء وطرق قياسه :
يرتبط الذكاء L’intelligence بمجموعة من الإمكانيات والقدرات المستقبلة Réceptrices التي تمكن الشخص من انتهاج سلوك معين يتفق ويتلاءم مع ظروف بيئته وما يصادفه من مواقف. وقد عرفه Wechsler بأنه القدرة الإجمالية والمعقدة للشخص على التصرف لتحقيق غاية معينة والتفكير بطريقة عقلانية وإقامة صلات مفيدة مع الوسط الذي يعيش فيه . ومن بين الإمكانيات أو القدرات التي تكون الذكاء الإدراك الحسي أو الوعي ، وما يشمله من ملكة الانتباه وسرعة التذكر وتداعي الأفكار ، والتصور والتخيل ، وطريقة التفكير ، والقدرة على التحليل والتأصيل.
ولا شك أن الناس يختلفون فيما بينهم في قدر ما يتمتعون به من ذكاء. فمنهم العباقرة النابغون ، وهم يمثلون الفئة الضئيلة من المجتمع ، ومنهم متوسطي الذكاء وهم الكثرة الغالبة ، ومنهم ضعاف العقول أو قليلو الذكاء وهم الذين يعانون عجزاً أو نقصاً في قدراتهم العقلية يعوقهم عن انتهاج سلوك السبيل الذي يعينهم على التكيف والتلاؤم مع البيئة الخارجية ، وهم كالفئة الأولى عددهم قليل بين الناس.
ويمكن التمييز بين عدة أنواع من الذكاء. فهناك الذكاء العملي والذكاء الفكري والذكاء الفني. ومن هنا يتنوع الأفراد في مهنهم فنجد منهم المفكرون والفنانون ، الذين يتميزون بتفوق في قدرات الذكاء الفكري والفني ، كالتفكير وملكة التذكر والتخيل والتصور ، ونجد منهم الحرفيون أو المهنيون الذين يمكنهم استخدام ذكائهم العملي في الأنشطة المادية بدرجة عالية من المرونة تناسب حاجات المجتمع.
ويختلف الأفراد من حيث نطاق الذكاء ، فنجد من الناس من يتميز بذكاء عام يشمل كافة الإمكانيات والقدرات العقلية ، ونجد منهم من يكون الذكاء لديه خاصاً ، أي يتعلق بكفاءة أو قدرة خاصة ، كالقدرة على الإبداع.
ولقد أمكن للباحثون قياس معدل الذكاء Quotient intellectuel لدى الأفراد عن طريق ما يعرف باختبارات الذكاء أو الاختبارات العقلية Mental Tests ، وأهمها ما يعتمد على المقابلة بين العمر العقلي والعمر الزمني. ويعبر العمر العقلي عن الملكات الذهنية للفرد كما هي موجودة بالفعل بصرف النظر عن العمر الحقيقي له. ويتم قياس العمر العقلي من خلال مجموعة من الأسئلة ، يتم ترجمة معدل الإجابات الصحيحة وسرعة الإجابة عليها إلى درجات ، يساعد مجموعها على تحديد معدل ذكاء الفرد بغض النظر عن عمره الزمني ، أو المقارنة بين معدل ذكاء شخص وآخر أو بين مجموعة من الأفراد وأخرى.
وقد استخدم العالم الألماني ولهلم شتيرن Stern Wilhelm هذه الطريقة في صياغة قانونه حول قياس معدل الذكاء.
فلديه أن معدل الذكاء = (العمر العقلي ÷ العمر الزمني ) × 100
ويتحدد العمر العقلي للفرد عن طريق وضع عدة اختبارات تناسب أعماراً مختلفة تقارب السن الذي بلغه الفرد وقت الاختبار ، ويمكن تحديد مستوى ذكائه عن طريق المقارنة بين عمره العقلي وعمره الزمني. فإذا قدم لشخص عمره عشرون سنة عدة اختبارات أعدت لسن 15 سنة و 20 سنة و 30 سنة ، أمكن قياس معدل ذكائه كما يلي : إذا اجتاز الاختبار المعد لسن 15 سنة وأخفق في الأعمار اللاحقة ، فمعنى ذلك أن معدل ذكائه 75% أما إذا اجتاز الاختبار الثاني أي المعد لمن هم في مثل سنه ، فإن معدل ذكائه يكون 100% ، أي أن عمره العقلي يكون مساوياً لعمره الزمني. أما إذا اجتاز الاختبار المعد لسن 30 سنة فإن معدل ذكائه يكون 150%.
ويحدد علماء النفس الذكاء المتوسط بما يتراوح بين 90% و100% والذكاء الخارق بما يزيد عن 120 % والذكاء الأقل من العادي بما يقل عن 80% وهو ذكاء ضعاف العقول.
ويتدرج ذكاء ضعاف العقول بدوره إلى ثلاثة درجات : ذكاء المعتوهين ، ويتراوح بين صفر% و25% وهي نفس النسبة التي يكون عليها ذكاء الأطفال في الثانية أو الثالثة من عمرهم ، وتنعدم مسئولية هؤلاء الجنائية ، فهم غير قادرين على القيام بأعبائهم الشخصية ووقاية أنفسهم وتكون لغتهم غير مفهومة. وهناك ذكاء البلهاء ، وهو الذي يعادل ذكاء الأحداث في سن السادسة ويتراوح بين 25% و50% ، وتخفف بعض التشريعات المسئولية الجنائية لهؤلاء ، فهم عادة يكونوا قادرين على القيام بأعبائهم الشخصية ووقاية أنفسهم من أخطار الحياة اليومية ، ولكنهم عاجزين عن تعلم القراءة والكتابة. وأخيراً هناك ذكاء الحمقى ، ويتراوح بين 50 % و80% وهي نسبة تقارب ذكاء طفل العاشرة ، وهولاء تظل مسئوليتهم الجنائية كاملة ، إذ أنهم قادرين تماماً على القيام ببعض الأعمال البسيطة دون إشراف متواصل ، ولكنهم يحتاجون إلى إشراف عام إذ من اليسير إغراء البنين منهم على ارتكاب جرائم معينة وخاصة السرقة ، وإغواء البنات على ممارسة الرذيلة.
118- ثانياً : الصلة بين مستوى الذكاء والسلوك الإجرامي:
توزع الباحثون في مجال الدراسات الإجرامية حول تأصيل العلاقة بين الضعف أو التخلف العقلي Arriération mentale والظاهرة الإجرامية على رأيين. فقد اتجه البعض من التقليديين إلى التقرير بوجود علاقة مطلقة ووثيقة بينهما ، في حين أنكر البعض الآخر من أنصار الاتجاه الحديث وجود مثل هذه العلاقة المطلقة.
119- أ : الاتجاه التقليدي :
ينادي هذا الاتجاه بوجود علاقة وثيقة ومباشرة بين الضعف العقلي والظاهرة الإجرامية. فقد كان السائد في القرن التاسع عشر لدى بعض الباحثين الأمريكيين أن ثمة علاقة وثيقة ومباشرة بين الضعف العقلي والسلوك الإجرامي. فجميع المجرمين والمنحرفين وفقاً لهذا الاتجاه لديهم دونية عقلية ، وإن تفاوتت درجة هذه الدونية. ويترتب على ذلك أن سياسة التعقيم أو عزل ضعاف العقول هي الوسيلة الفعالة والوحيدة للوقاية من الجريمة ومعاملة المجرمين. ولقد أحصي فقط في الولايات المتحدة عام 1956 نحو خمسون ألفاً من حالات التعقيم الخاصة بمرضى العقول.
وهناك من الدراسات ما قطعت بوجود هذه الصلة. ففي مطلع القرن العشرين ذهب العالم الأمريكي هنري جودارد Goddard – على ما سنرى حين دراسة الوراثة الإجرامية - إلى التأكيد على أن معظم الأفراد الجانحين من ذوي العقليات الضعيفة وأن 89% من نزلاء المؤسسات العقابية الأمريكية من الأغبياء أو ناقصي العقول. الأمر الذي أثبتته دراسة العالم جلوك Gluek على نحو 608 من نزلاء سجن Sing Sing ، إذ قرر أن ما يزيد على 59% هم من المصابين بمرض وشذوذ عقلي ، وحوالي 28.1% من المصابين بالهوس ، و18.9% من السيكوباتيين.
وبين عامي 1930 و1940 أجرى العالم بانالي Banaly دراسة على نزلاء ذات السجن أثبت خلالها أن 1% منهم مصابون بالهوس ، ونحو 20% غير ناضجين عاطفياً ، و17% منهم من السيكوباتيين .
والحق أن هذا الاتجاه معيب ومنتقد . فقد تبين أن النتائج التي أسفرت عنها هذه الإحصاءات لم تكن دقيقة ، إلا أنها استخلصت على أساس عدد الذين تم القبض عليهم وإدانتهم ، وليس على أساس عدد الجرائم المرتكبة بالفعل. فضلاً عن أن كثيراً من المجرمين الأذكياء هم الذين يفلتون من أيدي رجال العدالة ، أما ضعاف العقول فيكونون عرضة للقبض عليهم ، وبالتالي فإنهم يكونون نسبة كبيرة من نزلاء المؤسسات العقابية ، الأمر الذي يلقي ظلالا من الشك حول مدى قيمة النتائج المستخلصة من هذه الإحصاءات. يضاف إلى ذلك أن هذا الاتجاه لم يقدم لنا تفسيراً لعدم ارتكاب كثير من ضعاف العقول للجرائم ، ولو صح الربط الحتمي بين الضعف العقلي والسلوك الإجرامي لوجب أن يندفع كل ضعاف العقول إلى تيار الجريمة وهو ما يناقضه الواقع.
120- ب : الاتجاه الحديث :
ذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أن العلاقة بين الضعف العقلي والظاهرة الإجرامية علاقة غير مباشر ولا تتسم بالحتمية ؛ وأن نسبة الذكاء بين المجرمين لا تختلف عن نسبته بين الأسوياء ، فيما عدا الحالات القليلة التي يقف فيها الضعف العقلي وراء السلوك الإجرامي بشكل مباشر. وقد خلص العالم الأمريكي سذرلاند Sutherland إلى عدم الربط بين معدل الذكاء والسلوك الإجرامي من خلال دراسة شملت حوالي 175000 مجرم بين عامي 1925 و1928. وقد ذكر أن نسبة ضعاف العقول بين عينة الدراسة لم تتعدى 20% ، وأن المسجونين ضعاف العقول لا يختلفون عن غيرهم من المسجونين فيما يصدر عنهم من أخطاء داخل السجن أو في نسبة من يطلق سراحهم بناءً على الإفراج الشرطي. كذلك فإن نسبة العائدين إلى ارتكاب الجريمة من المجرمين ضعاف العقول لا تختلف عن نسبة العائدين المجرمين.
وقد أجرى هيلي Healy بعد ذلك دراسات على أربعة آلاف من الشبان المجرمين في شيكاغو وبوسطن وخلص إلى أن 72.5% منهم يتمتعون بملكات ذهنية معتادة ، وأن نسبة ضعاف العقول منهم لا تزيد على 13.5%. وهي ذات النتيجة التي توصل إليها كل من Weiss وSamoliner في دراسة شملت 189 شاباً مجرماً ما بين 16 و21 سنة.
ويذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أن الضعف العقلي وإن عد أحد عوامل الظاهرة الإجرامية إلا أنه لا يعدو أن يكون سبباً مهيأً لهذه الأخيرة ، ويتوقف ظهور السلوك الإجرامي للعالم الخارجي على عوامل أخرى بعضها نفسي وبعضها اجتماعي.
فمن من المقطوع به علمياً أن الضعف العقلي يؤثر في الجوانب النفسية للفرد ، وأنه كلما قلت نسبة ذكاء الشخص كلما ضعفت لديه القدرة على نقد ذاته وتبصر عواقب الأمور ، وكلما غلب عليه التقلب النفسي والانفعالي ، وضعفت أيضا سيطرته وتحكمه في غرائزه فيسهل انقياده لنداء هذه الأخيرة ، فيحاول إشباعها ولو بسلوك سبيل الجريمة.
ومن المؤكد أيضاً القاصر عقلياً قد يندفع إلى سبيل الجريمة ، ليس بفعل ضعفه العقلي ، بقدر ما يعود الأمر إلى ظروف اجتماعية تفاعلت مع هذا الأخير. فغالباً ما يتسبب الضعف العقلي في انغلاق سبل الكسب المشروع أمام صاحبه ، وكثيرا ما يؤدي إلى إخفاق الفرد في دراسته ، فتضيق فرص العمل ، فيدفعه كل ذلك إلى سلوك سبيل الجريمة. وإن وجد المصاب بهذا المرض عملاً فهو في الغالب عمل متدني يقربه من أفراد الطبقات الدنيا والتي تمتزج حياتها بالسلوكيات الإجرامية. وغالباً ما يكون ضعاف العقول أولى ضحايا الأزمات الاقتصادية التي تدفع أصحاب الأعمال إلى الاستغناء عن بعض العمال ، فيدفعه ذلك إلى التشرد والتسول. وأخيراً فإن ضعيف العقل كثيراً ما يكون موضع سخرية من قبل النساء ، الأمر الذي قد يدفعه إلى ارتكاب جرائم العرض أو الإيذاء البدني تجاههن.
وهكذا لا يكمن القول بوجود رباط مباشر بين مستوى الذكاء والسلوك الإجرامي ، غاية ما هنالك أننا نستطيع أن نقسم الجرائم وفقاً لمعيار الذكاء ودرجته إلى جرائم الأذكياء وجرائم الأغبياء. ولا يعني ذلك أن هناك جرائم تكون وقفاً على الأذكياء وأخرى مقصورة على الأغبياء ، فالشخص قد يرتكب أية جريمة ، وكل ما هنالك أن الفرد بطبعه يميل إلى ارتكاب الجريمة التي تتناسب مع معدل قدراته وملكاته الذهنية.
ويفترض النوع الأول المكون لجرائم الأذكياء في شخص مرتكبها قدرا عالياً من المهارات الذهنية ، كما هو الحال في جرائم النصب وتزوير المحررات وتزيف العملة وجرائم الجاسوسية أمن الدولة وجرائم التهريب الجمركي والضريبي. أما النوع الثاني المتمثل في جرائم الأغبياء فهي التي لا يتطلب في شخص مرتكبها إمكانيات أو قدرات ذهنية خاصة. بل يغلب أن يقدم على ارتكابها أفراد يقل مستوى ذكائهم عن المستوى الذكاء العام. ومن أمثلتها جرائم التسول ، والسب والقذف والفعل الفاضح ، وجرائم الحريق ، والدعارة ، والجرائم الماسة بالأطفال ، وجرائم السرقة والضرب والجرح ، والجرائم غير العمدية كالإصابة والقتل الخطأ.
المبحث الثاني
الـــوراثـــة الإجـــرامـــيـة
121- تقسيم :
لإبراز الدور الذي يمكن أن تلعبه الوراثة Hérédité في الدفع نحو الجريمة يتعين علينا أن نوضح أولاً المقصود بالوراثة وأنواعها ، ثم نبين الأساليب المستخدمة في الكشف عن الصلة بين الوراثة والسلوك الإجرامي .
المطلب الأول
مضمون الوراثة وأنواعها
122- أولاً : مضمون الوراثة :
يقصد بالوراثة انتقال خصائص معينة من الأصل إلى الفرع بطريق التناسل لحظة تكوين الجنين ، أي لحظة التقاء الحيوان المنوى للأب Spermatozoïde ببويضة الأم Ovule. والوراثة بهذا المعنى تختلف عن الوراثة الجماعية أو العامة والتي تعني انتقال صفات وخصائص معينة من سلالة إلى أخرى تشمل جماعة بأكملها أو جزء منها.
ويقرر علماء الوراثة أن الإنسان في خصائصه وصفاته يخضع لقوتين تتجاذبانه في اتجاهين متضادين : قوة الوراثة وتعمل على أن يستمر في الفرع خصائص وسمات السلف أو الأصل ، وقوة التغيير أو التطور التي تعمل على الحد من تأثير قوة الوراثة بحيث تختلف الصفات والسمات التي يتميز بها الأصل.
وبفعل قوة الوراثة تنتقل من الأصل إلى الفرع بعض الخصائص الفردية العضوية والعقلية والنفسية في إطار عملية معقدة ودقيقة. فكل خلية من خلايا جسم الإنسان تحتوي على مجموعة جزئيات دقيقة تسمى بالكروموزومات Chromosomes ، وهي مواد صبغية تقوم بنقل الخصائص الوراثية للفرد ، ويطلق على هذه الخصائص الوراثية اسم الجينات Gènes. وتتشكل كل خلية من عدد ستة وأربعون من الكروموزومات. ولما كانت الخلية الأولى للجنين تتشكل بفعل التقاء خلية الأب المنوية ببويضة الأم ، وكان من اللازم لكي تستمر الخلية المخصبة حية أن تحتوي فقط على ثلاث وعشرين زوجاً من الكروموزومات بحكم التكوين الطبيعي للخلايا ، فكان من اللازم أن تفقد كل من خلية الأب والأم نصف ما بها من كروموزومات ، في إطار ما يسمى بعملية التخفيض الكروموزومي Réduction chromatique. بعد ذلك يلتقي ثلاثة وعشرون كروموزوماً من خلية الأب بما يماثلهم من خلية الأم لتنتج الخلية المخصبة حاملة ستة وأربعون كروموزوماً. ونتاج الصراع بين الكروموزومات الذكورية والأنثوية المفقودة والباقية تظهر على الأبناء بعض خصائص وصفات أبائهم.
والحق أن الأمر في النهاية يتوقف على الدور الذي تلعبه الجينات وما تحمله من خصائص وراثية. فإذا كان هناك تشابها وتماثلا بين الخصائص الوراثية لجين الأب وجين الأم (كلون العينين أو الشعر مثلاً) ، فإنه من المؤكد أن تظهر عند الابن هذه الصفات الوراثية المشتركة ، أما إذا اختلفت الخصائص الوراثية لجينات الأبوين ، فإنهما يتصارعان وينتهي الأمر بتفوق أحدهما على الأخرى. فإذا كانت الصفات الوراثية المنتصرة ذكرية ظهرت في الابن خصائص أبيه ، وإن كانت أنثوية فإن خصائص أمه تظهر فيه بوضوح. ولعل هذا الذي يفسر لنا الاختلاف العضوي والنفسي بين الأخوة لأب وأم واحدة.
وقد يعترض التكوين الوراثي بالشكل السالف قوة تغير وتطور ، يطلق عليها العلماء ظاهرة التغير الفجائي في الوراثة Mutation. ويرجع العلماء أسباب التغير المفاجئ في الوراثة التعرض لأنواع من الأشعة الضارة ، أو تناول الأم المفرط للعقاقير في فترات الحمل ، أو إلى إدمان الخمور والمخدرات ، أو إصابة الأم بأحد الأمراض التناسلية كالزهري. ومن هذه الأسباب أيضا أن يكون فارق السن بين الزوجين كبيراً ، أو أن يقع الحمل في سن مبكرة جدا أو في سن متأخرة جداً. ويؤدي هذا التغير إلى خلل عملية التخفيض الكروموزومي ، وما تؤدي إليه من حجب لبعض الخصائص الوراثية Filtrage de l’hérédité ، فتزيد عدد الكروموزومات عموماً كما هو الحال لدى الطفل المغولي Mongolien ، أو تزيد الكروموزومات من نوع معين ، كالكروموزومات الجنسية.
وعموماً لا يجب إرجاع كل تغير أو تطور إلى وجود سبب من أسباب التغير الوراثي ، فربما ما نحسبه صفات وراثية جديدة لم تكن لدى الأب أو الأم ، ليس إلا صفات وراثية ترجع إلى الأسلاف الأوائل.
123- ثانياً : أنواع الوراثة :
للوراثة أنواع متعددة : فإما أن تكون الوراثة مرضية وإما أن تكون تشويهية. وتعني الأولى انتقال بعض الأمراض العصبية والنفسية والتناسلية بذاتها التي كان يعاني منها الأصل إلى خلفه. أما الوراثة التشويهية وفيها ينتقل فقط إلى الفرع شذوذ في التكوين نتيجة سبق إصابة الأصل بمرض معين أو نتيجة انتهاج الأم لسلوكيات خاطئة في فترات الحمل.
وقد تكون الوراثة تطابقية وقد تكون تشابهية. والأولى هي التي تنتقل فيها إلى الفرع ذات الخصائص والصفات التي كانت لدى الأصل دون تغيير ، كأن يكون الأصل مجرماً فيصبح الفرع كذلك أيضاً. أما الوراثة التشابهية فهي التي لا تنتقل فيها لدى الخلف ذات خصائص وصفات السلف ، ولكن يظهر لديه عيب آخر مشابه أو معادل لما كان لدى السلف من صفات. ومن ذلك أن يكون الأصل مجرماً بينما يكون الفرع مختل العقل أو العكس.
ويمكننا أن نميز أخيراً بين الوراثة الحقيقية وبين الوراثة الظاهرية. والوراثة الحقيقية هي الوراثة بمعناها الدقيق والتي تعني انتقال خصائص الأصل إلى الفرع لحظة تكوين الجنين. أما الوراثة الظاهرية Pseudo hérédité فهي مجمل العوامل التي تعاصر لحظة الإخصاب أو فترة الحمل فتظهر في الخلف خصائص وصفات لم تكن لدى السلف. كميلاد الطفل مصاباً بمرض عقلي نتيجة أن أحد الأبوين أو كلاهما كان وقت الإخصاب مدمناً للخمور والمخدرات ، أو كانت الأم في فترة الحمل مصابة بمرض نفسي أو جنسي.
المطلب الثاني
طرق الكشف عن الوراثة الإجرامية
124- تقسيم :
تتنوع الطرق التي اتبعها العلماء من أجل الكشف عما يربط الوراثة بالسلوك الإجرامي. ويمكننا أن نذكر على وجه التحديد أربعة طرق : إما دراسة شجرة العائلة ، وإما المقارنة الإحصائية ، وإما دراسة التوائم ، وإما دراسة الخلل الكروموزومي.
125- أولاً : دراسة شجرة العائلة :
يهدف أسلوب شجرة العائلة L’arbre de la famille إلى دراسة عائلة أو أكثر لتحديد مدى انتشار السلوك الإجرامي بين أفرادها ، ولبيان مدى انتقاله من السلف إلى الخلف. فقد أثبتت بعض الدراسات التي أجريت على أسر بعض المجرمين أن كثيراً من المجرمين يغلب أن يكونوا من أسر تناقل الإجرام بين أفرادها ، أو شاعت فيهم الأمراض العقلية.
ومن أقدم الدراسات وأشهرها في هذا المجال ما قام به ريتشارد دوجادل Dugdale عام 1877 من بحوث حول أسرة شخص يدعى ماكس جوكس Max Jukes عاش في القرن الثامن عشر بين عامي 1720 و1740 والمنحدر من أصول هولندية وكان مدمناً للخمر ومولعاً بالنساء وكانت له زوجة اشتهرت بالسرقة . وكانت البداية لدى هذا العالم عندما لاحظ في أثناء زيارته لأحد سجون نيويورك ارتفاع معدل الجريمة بين أفراد يبدو أنهم ينحدرون إلى أصل واحد. وقد اتضح له من تعقب حياة 709 شخصاً من أفراد عائلة الجد المشترك ماكس ، والبالغ عدد أفرادها حوالي 1200 خلال مدة خمسة وسبعين عاماً ، أن هذه العائلة قد قدمت لمدينة نيويورك نحو 280 مشرداً ومعوزاً ، ونحو 50 من محترفي الدعارة ، و60 لصاً محترفاً ، و300 من الأطفال غير الشرعيين ، و7 من القتلة ، و31 شخصاً مصاب بأمراض عقلية ، و46 شخصاً مصاباً بالعقم.
وفي متابعة من العالم استابروك Eastbrook لعائلة جوكس هذه حتى عام 1915 ، حينما بلغ إجمالي عدد العائلة نحو 2094 شخص ، منهم 1.258 من الأحياء ، تبين أن من بين أفراد هذه العائلة 170 مشرداً ، و129 معوزاً ، و118 مجرماً ، و378 بغياً ، و86 ممن يديرون بيوتاً للدعارة والمقامرة ، و181 مدمناً للخمور والمخدرات.
وهناك دراسة العالم الأمريكي هنري جودارد Goddard والذي عكف على دراسة عائلة الكاليكاك Kallikak ، وهو اسم مستعار لعائلة معرفة . وقد تبين له أن الجد الأكبر للعائلة – الذي أسماه مارتن كاليكاك - حينما كان جندياً في حرب الاستقلال قد تزوج من امرأة ساقطة ذات عاهة في العقل وكانت تعمل ساقية في إحدى الحانات. وقد أنجب مارتن من هذه السيدة طفلاً غير شرعي لم يكن متوافقاً اجتماعياً ، صار هذا الأخير فيما بعد أباً أكبر لعائلة بلغت نحو 480 فرد. ثم تزوج من بعد امرأة طيبة السمعة وأنجب منها طفلاً صالحاً تتابعت ذريته إلى أن بلغت نحو 496 شخص.
وبمقارنته لفرعي الأسرة ، تبين أن الفرع الأول قد شاع بين أفراده السلوك الإجرامي والضعف العقلي. فمنهم 33 بغياً ، و24 مدمناً ، و3 مرضى بالصرع ، و36 طفلاً غير شرعي ، و143 من ضعاف العقول ، و82 ماتوا مبكراً ، و3 من المجرمين ، و8 ممن يديرون بيوتاً للدعارة. في حين أن الفرع الثاني لم يخلف وراءه إلا البارزين في أعمالهم المهنية ، باستثناء شخصين من مدمني الخمور ، وشخص مصاب بمرض عقلي ، و15 ممن ماتوا في سن مبكرة.
كذلك هناك دراسة العالم الألماني بولمان Poellman والتي انصبت على عائلة رمز إليها باسم زيروس Zeros في مدينة بون ، بلغ عدد أفرادها نحو 800 فرد لمدة ستة أجيال متعاقبة. ولقد تبين لهذا العالم أن أغلب أفراد هذه العائلة كانوا مجرمين (76 فرد) ، أو متشردين ومعوزين (156 فرد) ، أو من الأطفال غير الشرعيين (117 طفلاً) ، أو من محترفي البغاء (181 بغياً) .
وقد جرت المقارنة بين عائلة جوكس سالفة الذكر وبين عائلة أحد رجال الدين الأمريكي يدعى "جوناثان إدواردر Jonathan Edwards. وقد تبين أن أسرة هذا الأخير قد اشتهر عنها الاستقامة والصلاح ، ولم يكن بين ذريته مجرماً واحداً ، بل كان منهم رؤساء جمهورية ، وقضاة محاكم عليا وحكام ولايات ومفكرين وكتاب ورجال دين. وربما هذا الأمر ينطبق بدوره من خلال إطلاعنا الحر على أفراد عائلة كنيدي المعرفة في الولايات المتحدة.
والواقع أن هذه الطريقة وإن كان لها فضل إظهار أهمية أثر عوامل الوراثة في السلوك الإجرامي ، إلا أنها معيبة وذلك لعدة أسباب :
- عيب على هذا الأسلوب تجاهله تماماً لدور البيئة العائلية التي يحى فيها أفراد العائلات التي طالتها الدراسات. فلقد كان أطفال أسرة جوكس مثلا يتعرضون لمؤثرات البيئة الفاسدة بقدر ما كانوا يتعرضون لتأثير عامل الوراثة. كما أن دراسة جودارد ذاتها تؤكد هذا النقد. فشيوع الإجرام بين أفراد أحد الفروع لم يكن إلا أثراً لظروف البيئة التي عاشوا في ظلها.
وقد حاول دالشتروم Dahlstrom في سنة 1928 تأكيد تأثير البيئة الفاسدة على السلوك الإجرامي فقام بدراسة على أسرة من المجرمين عرفت بنشاطها الإجرامي لمدة أربعة أجيال ، فأبعد ستة من أطفالها قبل سن السابعة فأصبحوا أعضاء صالحين في المجتمع ، وأبعد اثنان منهم بعد سن السابعة فصارا من المجرمين.
- كما عيب على هذه الطريقة أنه لا يمكن تعميم كافة نتائجها ، ذلك أنها تعتمد على عدد محدود من العائلات مختارة بطريقة تحكمية.
- كما أن هذا الأسلوب من أساليب البحث يهتم بالفروع وإن دنت دون الأصول وإن علت ، الأمر الذي يشوبها القصور. فقد ثبت أن جدة جوناثان إدوارد من أمه قد طلقت بسبب الزنا ، وأن عمة أبيه قد قتلت ولدها ، كما قتل عم أبيه أخته الوحيدة. فإذا صح أن الإجرام يورث لتعين أن يكون جوناثان ذاته وكثير من أفراد عائلته مجرمين.
- كما قيل أخيراً أنه يجب النظر للدراسات التي أجريت بهذا الأسلوب بعين الشك ، إذ أنها قد وقعت في مغالطة علمية بتجاهلها أن الفرع يرث صفات وخصائص أبويه معاً ، مما يتعين معه عدم التركيز عند تفسير إجرامه على العوامل البيولوجية الخاصة بأحد أبويه دون الآخر. كما أن الدراسات التي أجر