علو الدستور
لقد ظهرت العديد من الافكار لتبرير قانونية علو الدستور على بقية القوانين ، وقد كان التبرير التقليدي الاول لذلك مؤسساً على الفكرة التي كانت سائدة لدى فلاسفة القرن السابع والثامن عشر في أوربا ، والذين ذهبوا إلى كون الدستور عقداً اجتماعياً أو ان العقد الاجتماعي تبلور ويتجسد في الدستور ، وان هذا العقد هو الذي يخلق الدولة بعد اتفاق اطراف العقد على ذلك ووجود الرغبة في الانتقال من العيش في حالة الطبيعة إلى العيش في تنظيم يسمى الدولة ، حيث ان الافراد كانوا يعيشون في بداية الامر في حياة الطبيعة دون وجود الدولة ودون وجود الحكام ، في حين جاء بعد ذلك العقد الاجتماعي والمتجسد في الدستور كي ينشأ الدولة ويخلق وينظم السلطة فيها ، حيث انه يحدد من يقوم بوضع القوانين ومن يقوم بتنفيذها ومن يقوم بتطبيقها على الافراد . ويترتب على ذلك ان الدولة والسلطات فيها تكون مدينة للدستور في وجودها ، وعلى هذا الاساس يجب عليها احترام الدستور وعدم مخالفته والخضوع له . ولما كانت السلطات خاضعة للدستور خضوعاً قائماً على اساس علاقة الخضوع بين الخالق والمخلوق فان على المخلوق أي (السلطة) التقييد باحكام الدستور عند سن القوانين ، وبذلك تكون كل القوانين أيضاً خاضعة للدستور وغير مخالفة له ، حيث يترتب على مخالفتها له بطلانها . وبذلك يكون الدستور على قمة الهرم القانوني في الدولة ، ولما كان كل ما  في الدولة خاضعاً للقانون ، ولما كانت كل القوانين مقيدة بعدم مخالفة الدستور ، فان هذا يعني سمو الدستور على كل القوانين في الدولة وخضوع كل شيء في الدولة لأحكامه.
وبعد هذه النظرية التقليدية ظهرت نظرية أخرى مؤسسة لقانونية سمو الدستور ، وتقوم هذه النظرية والتي جاء بها الأستاذ (Georg Burdeau) على أساس ان وجود الدولة لا يقوم على مجرد التمييز بين الحكام والمحكومين ، أي أن الدولة لا تقوم بمجرد وجود أشخاص معينين قابضين على السلطة ويتصرفون بها ويمارسون اختصاصاتها بارادتهم المطلقة دون وجود أي قيد او تنظيم ، بل ان قيام الدولة يحتاج إلى انتقال السلطة من يد الاشخاص العاديين القابضين عليها والذين يتصرفون بها بمحض ارادتهم إلى كيان مجرد يسمى (الدولة) بحيث يصبح وجود هذا الكيان غير الملموس مادياً مالكاً للسلطة ، وبهذا المعنى تصبح السلطة ملكاً للكل بعد ان كانت ملكاً لأشخاص معينين . ولكي تتم عملية انتقال السلطة من الحكام القدامى إلى الكيان الجديد (مؤسسة الدولة) ، ولكي تقوم الدولة على اثر ذلك فان الامر يحتاج إلى وسيلة تقوم بعملية الانتقال وهذه الوسيلة تتجسد بالدستور الذي يقوم بعملية الانتقال ويأتي بالسلطة إلى أيادٍ جديدة هي ايادي الدولة ويقيدها كمؤسسة وممارستها بتنظيم معين يكون له الفضل في خلق الدولة ككل والسلطة فيها وبذلك تكون الدولة والسلطة مدينة بوجودها إلى الدستور وبذلك تتحقق من جديد علاقة الخضوع القائمة على أساس العلاقة بين الخالق والمخلوق( [61]).
وفضلاً عن النظريات السابقة لتبرير سمو الدستور والتي كانت قد تعرضت إلى بعض الانتقاد( [62]) نجد ان سمو الدستور لا يأتي من الاعتبارات التي ساقتها النظريات سابقة الذكر فحسب بل انه يأتي من طبيعة القانون بشكل عام حيث انه من المعروف ان القانون يوجد في الدولة في سبيل تحقيق اهداف معينة وان طبيعة أي قانون واهميته ترتبط بطبيعة الموضوعات التي يعالجها واهميتها ، فضلاً عن الهدف المراد تحقيقه من وراء تناول هذه الموضوعات . وبما ان الدستور يعالج موضوعات ذات طبيعة خاصة تختلف عن الموضوعات التي تعالجها بقية القوانين وان هذه الموضوعات تمتاز باهمية خاصة وعالية ولما كان الهدف من وجود الدستور هو ان يكون معالجاً لهذه المسائل والموضوعات وان تحقيقه لهذه المعالجة يقتضي ان يكون في قالب وطبيعة خاصة تقتضي منه ان يكون بدرجة اعلى من القوانين العادية وذلك لعلو الموضوعات التي يعالجها من حيث الاهمية والخطورة ، فان تحقيق الدستور لهدفه يقتضي منه كقانون ان يكون بهذه المكانة وبهذه الطبيعة من حيث السمو والخضوع له من قبل الغير.
وبعد ان علمنا الاساس القانوني الذي يقوم عليه مبدأ سمو الدستور نتساءل هل ان هذا التأسيس للمبدأ يعني ان جميع الدساتير تقوم عليه وتأخذ به ؟
ان مبدأ سمو الدستور يفترض وجود (دستور) وان يتصف هذا الدستور باحترام خاص ومميز عن بقية القوانين قائم على اساس السمو والعلو لهذا الدستور . وان هذا الافتراض يفترض وجوده في جميع الدساتير وذلك انطلاقاً من فكرة وفلسفة الدستور القائمة على هذا الاساس ، ولكن الواقع العملي لا يتفق مع ذلك اذ نجد ان ذلك قد يكون متحققاً في دساتير معينة وغير متحقق في دساتير اخرى ، وان مدى تحقق ذلك يختلف ايضاً من دستور إلى اخر وذلك تبعاً لاعتبارات معينة مادية وظرفية خاصة بكل دستور.
حيث لا يتصور وجود السمو للدستور في النظم الديكتاتورية سواء كانت ظاهرة بشكل صريح ام كانت مقنعة ، حيث ان الاحترام المقصود في المبدأ يقتضي من الحكام تفعيله قبل غيرهم ممن يخضعون للدستور ، بشكل غير مباشر ، في حين ان النظم الديكتاتورية تكون قائمة على اساس العنف والاستبداد وعدم احترام القوانين وعلى رأسها الدستور الذي يخاطبهم باحكام مباشرة للتقييد من سلطاتهم . أي ان مبدأ سيادة الدستور هو في حقيقته مبدأ خاص بالنظم الديمقراطية لذلك نجد ان النظم الغير ديمقراطية تبتعد عنه وتحاربه ولا تقبل به لان الدستور هو المظهر الاساسي لشريعة الحق ، والفوضوية تنكر الحق( [63]).
اضافة إلى ما تقدم فان مبدأ سمو الدستور لا يظهر بشكل واضح الا في الدساتير الجامدة ، وهي تلك الدساتير التي يلزم لتعديلها اجراءات معقدة تختلف عن الاجراءات اللازمة لتعديل القوانين العادية( [64]) حيث ان هذا النوع من الدساتير يعطي خصوصية للدستور تسهم في تفعيل مبدأ السمو ، بحيث تكون ميزة الدستور في العلو واضحة وذلك من حيث انه لا يعدل او يلغى بذات الاجراءات الشكلية التي يعدل او يلغى بها القانون العادي .
وعلى اساس وجود العلاقة بين سمو الدستور وجمود الدستور نستطيع ان نعرف مدى اتصاف الدستور بالسمو من خلال معرفة ان جمود الدستور لا يكون دائماً جموداً مطلقاً بل انه يمكن ان يكون كذلك كما انه يمكن ان يكون جموداً نسبياً ، ويكون الجمود مطلقاً اذا كان هناك حضر مطلق على تعديل الدستور جزئياً او كلياً ، اما الجمود النسبي فيكون عندما لا يكون هناك حضر مطلق بل ان الامر يقتصر على كون تعديل الدستور جزئياً او كلياً يحتاج إلى اجراءات شكلية تختلف عنها بالنسبة إلى القوانين العادية( [65]) وعلى هذا الاساس وبالنسبة إلى درجة السمو يمكن القول انه كلما ارتفع مستوى جمود الدستور كلما تكرس ذلك لمصلحة  مبدأ سمو الدستور .
ولكن ما هي النتائج القانونية العملية المترتبة على الاخذ بمبدأ سمو الدستور وكيف يتم تفعيل ذلك من خلال الاخذ بالدساتير الجامدة ؟
ان الاخذ بمفهوم الدستور الجامد بنوعيه المذكورين آنفاً يقود إلى نتائج عملية تتمثل بما يأتي :
1- ثبات القوانين الدستورية :
حيث ينتج عن جمود الدستور ثبات للقوانين الدستورية ، ويكون ذلك من خلال كون المشرع العادي وبالاجراءات العادية لا يتمكن من تعديل النصوص الدستورية ، ويقصد من تحقيق هذا الثبات تحقيق نوع من الاستقرار لهذه القواعد وليس مجرد التجميد غير الهادف( [66]) حيث ان الشطط في الجمود لنصوص الدستور قد يتسبب في ايجاد بون شاسع بين احكام الدستور والواقع العملي ، بحيث يصبح الدستور غير قادر على مواكبة تطورات المجتمع والتكيف معها ( [67]) لذلك نجد ان هذا الثبات لابد وان يكون نسبياً وبالقدر الذي يحقق التوازن بين هدف تحقيق الاستقرار المتفق مع سمو الدستور وتحقيق المواكبة والتفاعل مع تطورات المجتمع ، ولهذا نجد ان الفقهاء ذهبوا إلى جواز التعديل وفقا لاجراءات معينة ، حيث ذهب البعض إلى كون ذلك يحتاج إلى الموافقة الإجماعية للشعب ومن انصار هذا الرأي الفقيه ( Vattel ) في حين ذهب راي اخر إلى امكانية تعديل الدستور ومواكبة التطورات في المجتمع وذلك باتباع الاجراءات التي ينص عليها ذات الدستور ومن قبل السلطة المحددة فيه ، ومن انصار هذا الراي الفقيه  (Rousseau)( [68]).
 
2- التفرقة بين السلطات المؤسِسة والسلطات المؤسَسةَ :
بحيث تكون وظيفة السلطات المؤسسة سن القوانين الدستورية المنظمة لعمل السلطات وبضمنها السلطة التشريعية ويظل هذا الاختلاف قائما حتى عندما يخول الدستور أعضاء السلطة التشريعية حق تعديل القوانين الدستورية ، اذ تصبح هذه السلطة مقيدة بشروط خاصة غير الشروط الخاصة بسن القوانين العادية( [69]).
 
3- لا يفسخ القانون الدستوري إلا بقانون دستوري :
تعد القاعدة التي تفيد بان القانون الدستوري لا يفسخ او يلغى الا بقانون دستوري من القواعد ذات الاهمية البالغة لتأكيد مبدأ سمو الدستور ، وقد كانت هذه القاعدة من القواعد المهمة التي قررها رجال الثورة الفرنسية الشهيرة وذلك لتدعيم وتفعيل مبدأ سمو الدستور( [70]) وبموجب هذه القاعدة لا يمكن إلغاء او تعديل القاعدة الدستورية الا بقاعدة قانونية تكون بمستواها من حيث القوة الالزامية ومن المعروف ان مفهوم تدرج القوانين يقضي بان لا يكون بمستوى القاعدة الدستورية من حيث الالزام والعلو الا قاعدة دستورية اخرى ، ولذلك فالقاعدة الدستورية التي تستقر عن طريق العرف تستطيع إلغاء قاعدة دستورية مدونة والعكس  صحيح ( [71]) في حين لا يكون الأمر كذلك بالنسبة إلى القاعدة القانونية العادية حيث يمكن تعديلها بقاعدة دستورية جديدة في حين لا تستطيع هي ان تعدل قاعدة دستورية سابقة عليها وذلك انطلاقا من قاعدة تفيد بكون القانون الادنى لا يستطيع ان يعدل او يلغي القانون الاعلى منه ( [72]).
 
4. دستورية القوانين :
وتعد دستورية القوانين من أهم النتائج المترتبة على سمو الدستور ، وذلك بان تكون كافة القوانين العادية متفقة مع الدستور ، بحيث انه يجب أن تصدر القوانين العادية من السلطة التشريعية في نطاق ما تتضمنه القوانين الدستورية من قواعد وأحكام وبذلك يمتنع على القوانين العادية ان تخالف القوانين الدستورية ، وان أي قانون عادي يكون مخالف لقانون دستوري يكون قانونا باطلا وذلك لكونه قانون غير دستوري ، او مخالف لاحكام الدستور( [73]) .
وتعد دستورية القوانين نتيجة منطقية لسمو القوانين الدستورية . اذا لما كانت القوانين الدستورية اسمى من القوانين العادية فان هذه الاخيرة لا يصح ان تخالفها ويجب عليها ان تسير ضمن اطار الدستورية( [74]) .
ويتضح تأثير سمو الدستور وفاعليته لتحقيق الغاية من وجود الدستور في كونه يتجسد في هذه النتيجة بشكل مباشر من حيث التأثير في انه وبموجب هذا الاثر تحكم قواعد واحكام الدستور جميع اوجه النشاط المنظم في الدولة ، ويكون ذلك من خلال سريان اثر احكام الدستور على اوجه النشاط الاخرى في المجتمع والتي لا يحكمها الدستور بشكل مباشر ، والتي يجب ان تكون خاضعة له طبقا لفكرة الدستور وفلسفته في الوصول إلى اهدافه حيث انه من المعلوم ان الدستور يحكم مسائل معينة بشكل مباشر ، الا وهي تلك المسائل التي تدخل ضمن موضوعاته التي تطرقنا اليها فيما تقدم، ولكنه وبموجب مفهوم ( دستورية القوانين ) سوف يحكم وبشكل غير مباشر جميع اوجه النشاط الاخرى التي تحكمها القوانين العادية وذلك من خلال حكم هذه القوانين نفسها وتسيرها على نحو يتفق مع احكامه وبذلك يصبح الدستور حاكما لكل ما موجود في الدولة من حكام ومحكومين وذلك في جميع اوجه النشاط والعلاقات التي تنظم بموجب القانون . وتكون هذه الامكانية للدستور فعالة من خلال الاثر المترتب على مخالفة الدستور الا وهو بطلان الانشطة والقوانين المخالفة . ولكن السؤال الذي يثار هنا هو ، هل ان تفعيل دستورية القوانين يحتاج إلى نص صريح في الدستور يشير إلى ذلك ؟
على الرغم من كون بعض الدساتير تذهب إلى الاشارة الصريحة إلى البطلان بالنسبة إلى القوانين التي تصدر مخالفة لاحكامها ، فان اتجاه الفقه يذهب إلى ان تقرير هذا البطلان لا يحتاج إلى وجود مثل هذا النص ، حيث انه امر يتقرر ضمنا وكنتيجة منطقية لفكرة جمود الدستور المرتبطة بفكرة السمو ( [75]) .
واذا علمنا ان نتيجة البطلان المترتبة منطقيا على مبدا سمو الدستور هي الاثر المترتب على حالة عدم الدستورية سواء تم اقرار ذلك صراحة ام ضمنا ، نتساءل عن كفاية هذا الحكم لتفعيل دستورية القوانين ؟ وكيف يتم تقرير هذا الحكم ؟
ان حقيقة الامر ان الكثير من الدول لا تكتفي بجزاء البطلان كنتيجة على عدم دستورية القوانين ، بل انها تذهب إلى ايجاد الية معينة لتفعيل ذلك وضمان الدستورية ويكون ذلك بالأخذ بالية الرقابة على دستورية القوانين والتي تتخذ اكثر من صورة او شكلية باختلاف الدول التي تأخذ بها .
وتتلخص فكرة الرقابة بإيجاد آلية معينة لحماية احكام الدستور ومراقبة مدى اتفاق القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية ، ويكون ذلك من خلال هيئات سياسية او قضائية وقد تكون هذه الرقابة سابقة على صدور القوانين او قد تكون لاحقة على اصدارها ، أي انها اما ان تكون وقائية او علاجية . وتعد الية الرقابة هذه بأنواعها وأشكالها من الوسائل الناجحة لإعمال الدستور . ويختلف مدى نجاحها وفاعليتها بحسب نوعها وإجراءاتها ، ومن الدول التي أخذت بها فرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا ومصر والكويت والسودان( [76]).
ونخلص من كل ما تقدم ان الدستور قانون ، وانه قانون ذو خصوصية ، وتنبع هذه الخصوصية من اهمية احكامه من الناحية الموضوعية والشخصية ، حيث انه من الناحية الموضوعية ينظم مسائل معينة في غاية الاهمية بالنسبة إلى الدولة ومن الناحية الشخصية فانه يخاطب باحكامه كل ما موجود في الدولة من اشخاص وعلى راسهم الحكام وان هذه الخصوصية لقانون الدستور جعلت احكامه تمتاز بالسمو والسيادة على كل ما موجود في الدولة وضرورة تفعيل ذلك اعطته شكلية معينة لتفعيل ذلك باعتباره الاطار التنظيمي العام لكل ما موجود في الدولة من انشطة وعلاقات تحتاج إلى تدخل القانون لتنظيمها .