العلاقه بين القانون الدولى لحقوق الانسان و القانون الداخلى
التفاعل بين اعتبارات معينة أفضى الى إيجاد قواعد عامة لحكم العلاقة بين القانون الدولي العام والقانون الداخلي . وقد كانت هذه الاعتبارات تتمثل بسيادة الدولة من جهة وسمو القانون الدولي نظراً إلى طبيعة قواعده ، من جهة اخرى واذا ما كانت هذه الاعتبارات تؤثر في عملية إنتاج قاعدة معينة لحكم العلاقة فان هذه الاعتبارات بدورها تتأثر بشكل عام بالظروف العامة المتعلقة بالمجتمع الدولي بشكل عام وكل دولة بشكل خاص .
وعلى هذا الاساس القائم على امكانية حصول استثناء على القاعدة التي تحكم العلاقة بين الاعتبارين ومن ثم القانونين وذلك على اساس وجود اعتبارات ظرفية فان ذات الاساس من الممكن ان يصلح لتأسيس امكانية وجود علاقة استثنائية بين القانون الدولي والقانون الداخلي وذلك بالنسبة إلى طائفة معينة من القواعد الدولية ، وتؤسس هذه العلاقة على وجود قواعد ذات طبيعة خاصة في القانون الدولي وتحتاج الى علاقة خاصة مع القانون  الداخلي ، وفيما يتعلق بهذه الدارسة فان هذه القواعد تتمثل في القواعد الدولية لحقوق الانسان أي قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان ، فهل يترتب على اعتبار هذه القواعد ذات طبيعة خاصة الاعتراف لها بعلاقة خاصة مع القانون الداخلي تقوم على اساس استثنائي من الاصل العام المرتبط بالاعتبارات التقليدية للسيادة وسمو القانون الدولي ؟
ان لقواعد القانون الدولي لحقوق الانسان طبيعة خاصة تتمثل بكونها قواعد تنشأ وتسري في وسط دولي أي إنها دولية ولكنها وجدت في سبيل الفرد كغاية ومحل ، أي انها موجهة لمصلحة الأفراد بشكل مباشر بخلاف الحال بالنسبة لبقية القواعد الدولية الموجهة الى الدول بالدرجة الأساس . وإذا كانت الضرورات العملية لتفعيل قواعد حقوق الإنسان قد اقتضت وجود عملية إرسال لهذه القواعد من القانون الداخلي الى القانون الدولي فان ذات الضرورة تقتضي إيجاد عملية إرسال أخرى لهذه القواعد ولكن هذه المرة من القانون الدولي الى الداخلي والذي يفترض به ولتفعيل هذه القواعد ان يقوم باستقبالها . ويكون ذلك بعد ان تتطور هذه القواعد في الوسط الدولي وتتبلور وتقرن بدفع أقوى لغرض التطبيق المتفق مع اهدافها ، حيث ان الهدف من انتقال القواعد الى القانون الدولي هو تقويتها وزيادة الزاميتها واقرانها بوسائل دولية لتفعليها فضلاً عن الوسائل الدولية البحتة التي تهدف الى حماية حقوق الانسان أي تلك التي تخاطب الإنسان بشكل مباشر وتعمل على حماية حقوقه .
واذا كانت قواعد حقوق الانسان تنبع من اصل داخلي وتنتقل الى وسط دولي في سبيل تعزيزها وتقويتها كي تستطيع تحقيق اهدافها ، فان منبعها الاصلي لا يعطيها مكنة السريان داخل الدول بشكل مباشر ويكون حالها بمجرد اعادة الارسال من القانون الدولي الى الداخلي ، حال بقية القواعد الموجودة في القانون الاخير ، بل ان نجاح عملية الارسال الدولي لهذه القواعد والتي تعد ضرورية في سبيل تفعيلها يحتاج الى عملية استقبال قانونية من قبل القانون الداخلي لهذه القواعد ومن ثم فان الامر يحتاج الى عملية اخرى وهي عملية الادماج في القانون الداخلي والتي تُتاح بعدها للقواعد الدولية الفرصة للبدء بالنفاذ وتختلف هذه العمليات واجراءاتها من دولة الى اخرى وذلك تبعا لموقف قانون الدولة من القانون الدولي من حيث العلو او السمو وذلك بحسب ما تناولناه فيما  تقدم في المبحث السابق .
والسؤال الذي يثار هنا هو عن ماهية الاساس القانوني الذي تؤسس عليه الدورة التي تمر بها القواعد الدولية لحقوق الانسان وصولا الى مرحلة تطبيقها على الصعيد الداخلي للدول؟
ان الاساس الاول الذي يفضي الى وجود هذه الدورة بالاصل هو ضرورة تطبيق قواعد حقوق الانسان في نهاية الامر في الحيز المكاني الذي يتواجد فيه محل وهدف هذه القواعد الا وهو الانسان .
ويتمثل هذا الحيز بالدرجة الاساس في داخل الدول التي ينتمي اليها الانسان او يقيم فيها ، والتي توجد فيها انظمة قانونية مطبقة وتسري على الافراد بحسب السريان الشخصي والاقليمي لقوانين الدول ، حيث ان حقوق الانسان بشكل عام يكون لها تماس مباشر مع القوانين الداخلية سواء كانت هذه القوانين تأتي لهذه الحقوق بالحماية ام انها تنتهك البعض منها، حيث انه من المعلوم ان قواعد حقوق الانسان وانطلاقا من تعبير (قواعد) من جهة وتعبير (حقوق) من جهة اخرى ، تشير بشكل صريح الى كونها تتصف بمواصفات قانونية ، والقاعدة القانونية توجد في سبيل تنظيم العلاقات ، فكذلك الامر بالنسبة إلى قواعد حقوق الانسان فانها من المفترض ان تكون قد وجدت في سبيل حكم وتنظيم علاقات معينة بحسب ما يجب ان يكون وفقا لفلسفة حقوق الانسان لذلك نجد ان هذه القواعد تنظم علاقات الانسان بشكل عام سواء مع اخيه الانسان او مع الدولة (السلطة) لذلك فهي وبحسب الجوانب المتعلقة بفلسفة حقوق الانسان من الممكن ان تدخل ضمن مختلف القوانين العادية المنظمة للعلاقات كما انها من الممكن جدا ان تدخل ضمن القوانين الدستورية المنظمة لعلاقة الافراد بالدولة ومسائل اخرى تتعلق بالسلطة ولها صلة بحقوق الانسان لذلك نجد ان تطبيق مضامين قواعد حقوق الانسان يحتاج الى ادخالها ضمن القوانين العادية مثل القانون المدني والاحوال الشخصية والعقوبات واصول المحاكمات وغير ذلك او باقل تقدير التأثر بها .
واذا علمنا حقيقة الاساس الذي توجد على ضوءه دورة الارسال والاستقبال سابقة الذكر نتساءل الان عن الاساس التنظيمي الذي تسير وفقا له هذه الدورة على نحو معين ، والذي قد نجده يختلف في التطبيق من دولة الى اخرى ؟
علمنا فيما تقدم ان تطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان يحتاج الى النظام القانوني الداخلي للدولة ، أي ان حماية الحقوق الانسانية لافراد معينين يحتاج الى ادخال القواعد الدولية لحقوقهم الى النظم القانونية الداخلية لدولهم ، ولكن وجود مثل هذه الحقيقة لا يعني ان تطبيقها يكون امرا سهلا ويحصل بناءا على ما هو مفروض وفقا لفلسفة حقوق الانسان ، اذ ان قواعد القانون الدولي لحقوق الانسان تبقى قواعد دولية تحمل ذات الصفة العامة لبقية القواعد الدولية . وان ما يقف حائلا دون تطبيق القواعد الدولية لحكم العلاقات الوطنية يكون له مبدئيا ذات التأثير في القواعد الدولية لحقوق الانسان .
ولكن ما هو الاعتبار الذي يحول دون تطبيق القواعد الدولية بشكل مباشر داخل الدولة؟ وما مدى تأثيره في تطبيق القواعد الدولية لحقوق الانسان ؟
ان هذا الاعتبار يتجسد في مفهوم ما يعرف بسيادة الدولة ، ذلك المبدأ ذي الاهمية في القانون الدولي العام والذي تناوله العديد من الكتاب والذي لا مجال لتناوله هنا ، وتقوم فكرة السيادة وفيما يتعلق بموضوع هذه الدراسة على اساس ان لكل دولة الحق في ممارسة اختصاصها دون ان يزاحمها في ذلك أي طرف اجنبي ، وتتمثل هذه الاختصاصات باختصاصات داخلية واخرى دولية ، وما يعنينا هنا هو الاختصاصات الداخلية ، حيث انها تتمثل في الحق في تنظيم العلاقات القائمة داخل الدولة ويكون ذلك من خلال حقها في تشريع القوانين وهو ما يعرف بالسيادة التشريعية والحق في تنفيذ القوانين وهو ما يعرف بالسيادة التنفيذية والحق في ممارسة سلطة القضاء داخل الدولة وهو ما يعرف بـ ( السيادة القضائية)( [22]).
وبعد ان علمنا مفهوم السيادة الداخلية للدولة بقي ان نعلم ان هذا المفهوم يعني ان الدولة في ممارستها لهذه السيادة يجب ان لا تزاحم من قبل أي طرف اجنبي ، أي يجب ان لا تسري داخل الدولة أية قواعد أجنبية عن النظام القانوني للدولة ، ولا يمكن ان يحدث ذلك بدون خرق السيادة الا وفقاً لنظام خاص هو ذلك النظام النابع من وجود قاعدة خاصة لإدخال القواعد الدولية الى القانون الداخلي ، وهو ما تناولناه فيما تقدم .
وبعد ان علمنا ان السيادة هي التي تؤدي الى ضرورة وجود نظام خاص لاستقبال القواعد الدولية بشكل عام نتساءل عن طبيعة العلاقة بين السيادة والقواعد الدولية لحقوق الإنسان وهل أن موقف السيادة من هذه القواعد يكون بذات الشكل بالنسبة إلى بقية القواعد الدولية أم أن هناك علاقة خاصة بينهما ؟
لقد مرت العلاقة بين حقوق الإنسان والسيادة بعدة مراحل تطور بحسب الضرورات العملية في المجتمع الدولي ودرجة تقدم مسيرة حقوق الإنسان بشكل عام وفي المجتمع الدولي بشكل خاص ، وقد بدأت المرحلة الاولى لهذه العلاقة بمفهوم ذي طبيعة هجومية من طرف السيادة وكان ذلك أبان مطالبة الشعوب بالسيادة باعتبارها ممارسة جماعية لمفهوم حقوق الإنسان . وذلك للتخلص من السيطرة الاستعمارية . اما المرحلة الثانية للعلاقة فقد كانت مرحلة دفاعية من قبل السيادة وذلك في سبيل حماية الدول المتمتعة بها من التعرض للتدخل الأجنبي في شؤونها . اما المرحلة الاكثر تطوراً لهذه العلاقة فقد كانت مرحلة هجومية على السيادة من قبل حقوق الانسان ، وكان ذلك من خلال تقييد السيادة لمصلحة حقوق الانسان وكان التطبيق العملي لذلك من خلال العمل على إخراج مسائل حقوق الانسان من ما يعرف بالاختصاص الداخلي للدول وجعله من الامور الدولية وتحقق ذلك فعلاً وبشكل رسمي وعلى  صعيد دولي من خلال ادراج حقوق الانسان في ميثاق الامم المتحدة( [23]).
ان موضوع السيادة يعد من الموضوعات ذات الصلة الوثيقة بموضوع حقوق الانسان وتظهر هذه الصلة بشكل واضح فيما يتعلق بتطبيق هذه الحقوق حيث انه وكما علمنا ان هذا التطبيق يحتاج الى الوصول الى الانسان ويؤثر في كيفية تنظيم علاقاته الفردية والجماعية العامة منها والخاصة .
وبتناول الموضوع بتعمق اكبر نجد ان فكرة السيادة وجدت اصلا لغرض غير بعيد عن الانسان وحقوقه ، حيث انها وجدت لحماية الدولة ، ذلك التنظيم الذي اوجده المجتمع الانساني لتحقيق اهداف انسانية ، وان هذه الفكرة بتطبيقها تؤدي الى حماية الافراد داخل دولهم من أي اعتداء خارجي من الممكن ان يؤدي الى انتهاك حقوقهم او على كيان الدولة الذي وجد بالاصل لحماية حقوقهم وتنظيم تمتعهم بها وتحقيق رفاهيتهم، وامام هذه الحقيقة فان المنطق ياخذنا الى نتيجة منطقية تفيد بان ما يوجد في سبيل حماية الافراد من الاعتداء الخارجي ويضمن رفاهيتهم لا يمكن ان يكون حائلا دون تحقيق هذه الرفاهية في الداخل او بتعبير ادق لا يمكن ان يكون جدارا ترتكب وراءه انتهاكات للحقوق الانسانية ويمنع حصول تدخل أجنبي لحمايتها اذ ان الذي يكون وسيلة للتحرير من الاعتداء والقمع الخارجي لا يمكن الا ان يكون وسيلة للتحرر من ذلك داخليا .
وبناءً على ما تقدم نجد ان السيادة بمفهومها التقليدي تطورت بتطور مسيرة حقوق الانسان وزيادة نضج المجتمع الدولي واخذت تتقبل تقييدها لمصلحة  حماية حقوق الانسان ، وعلى هذا الاساس كان لابد وان يقابل ذلك عمليا بايجاد تعامل خاص للسيادة مع القواعد الدولية لحقوق الانسان ، حيث انها لا يمكن ان تكون دون تطبيق قواعد معينة من المعروف ان اغلبها لا يمكن ان يحقق اهدافه الا بالدخول ضمن النظام القانوني الداخلي .
واذا كانت العلاقة بين القانون الدولي لحقوق الانسان والسيادة علاقة من نوع خاص وتحتاج الى عملية استقبال وادماج من نوع خاص فالسؤال الذي يثار هنا هو عن كيفية تنظيم عملية الاستقبال والادماج وكيفية ضمان صحة ذلك ؟
ان تنظيم مثل هذه المسألة ليس من الامور العادية بل انه من الامور التي لها خصوصية تحتاج الى قانون ذي خصوصية ومتميز عن القوانين العادية ، وامام هذا الغرض فانه من الطبيعي ان يكون تنظيم ذلك من خلال اعلى قانون في الدولة والذي تكون له خصوصية مميزة عن القوانين العادية ، ويتمثل هذا القانون بالدستور .
واذا كان المنطق قد قادنا الى القول بان تنظيم العلاقة بين القانون الدولي لحقوق الانسان والقانون الداخلي يجب ان تنظم من خلال الدستور فان السؤال الذي يثار هنا بصدد الاعتبارات الداعية الى هذه النتيجة او هذا التصور ، او بتعبير اخر هل هناك علاقة ذات خصوصية بين القانون الدولي لحقوق الانسان والدستور ؟
سوف نحاول الاجابة عن هذا التساؤل في المبحث القادم .