الدفع بعدم قبول الدعوى والنظام العام :
----------------------------------------
نلاحظ أنه لا يمكن تقرير حكم عام يسري على سائر الدفوع بعدم القبول ، فثمة حالات يتعين فيها على المحكمة أن تقضي من تلقاء نفسها بعدم قبول الدعوى ، ولو رفعت الدعوى بناء على اتفاق طرفيها ، وثمة حالات أخرى يتعين فيها التمسك بالدفع حتى تقضي المحكمة بعدم قبول الدعوى ، ويتعين البحث في موضوع كل دفع على حدة لمعرفة طبيعة البواعث التي دعت الى تقريره ، والتساؤل في كل حالة عما إذا كان الدفع مقررا لصالح المدعى عليه أو مقررا فضللا عن ذلك لصالح المجتمع ذاته.
ومن أمثلة الدفع المتصلة بالنظام العام الدفع بعدم قبول الطلبات الجديدة في الاستئناف (م 235) والدفع بعدم قبول الطعن في الحكم لرفعه قبل الميعاد أو بعده كعدم قبول الاستئناف المرفوع قبل الفصل في الموضوع عن حكم فرعي لا يقبل الطعن المباشر .
ويلاحظ أن قانون المرافعات يوجب على المحكمة بنص المادة 215 أن تحكم من تلقاء نفسها بعدم قبول الطعن في الحكم إذا رفع بعد الميعاد ، وليس معنى هذا أن القانون يلزم المحكمة بالحكم بعدم قبول الاستئناف إذا رفع قبل الميعاد إذ المادة تقول " يترتب على عدم مراعاة مواعيد الطعن في الأحكام سقوط الحق في الطعن ، وتقضي المحكمة بالسقوط من تلقاء نفسها " ، فعدم مراعاة الميعاد الذي يترتب عليه سقوط الحق يشمل فقط عملا بالنص المتقدم أحوال رفع الطعن بعد الميعاد دون أحوال رفع الطعن قبل الميعاد ، لأن رفع الطعن قبل الميعاد لا يترتب عليه سقوط الحق فيه .
والدفع بإنكار صفة الخصم هو من الدفوع التي تتصل بالنظام العام ، وذلك على اعتبار أن المحكمة يتعين عليها قبل تناول موضوع الدعوى أن تتحقق من صفات الخصوم ، وتتحقق أيضا من وكالة من ينوب عنهم فعليا ومن تلقاء نفسها أن تطالبهم بتقديم ما يثبت وكالتهم عن صاحب المصلحة في الدعوى حتى لا تشغل بقضايا غير جدية لا يفيد منها أحد أو بقضايا رفعت لمجرد المشاكسة .
ويلاحظ أنه إذا لم يثبت من حضر عن المدعى الوكالة على الوجه المطلوب قانونا فالمحكمة لا تحكم بعدم قبول الدعوى ، وإنما ترخص للوكيل بإيداع توكيله في ميعاد تحدده ، ويجب أن يتم هذا الإيداع في جلسة المرافعة على الأكثر (م 73) فإن لم يودع الوكيل توكيله كان على المحكمة أن تنظر القضية على اعتبار أن المدعى متخلف عن الحضور ، ولا يجوز لها أن تفصل يفها معتمدة على ما يدلى به مدعى الوكالة ، وإلا كان حكمها باطلا ، لبطلان الإجراءات المتقدمة عليه والتي بنى عليها . كما أن للمدعى أن يتصل مما قام به من تصرف باسمه فتبطل إجراءات الخصومة وتسقط ويسقط الحكم الصادر فيها ، وقد رأينا أن محكمة النقض تقضي بعدم قبول الطعن إذا لم يقدم وكيل  الطاعن سند توكيله حتى حجز القضية للحكم . (نقض 8/4/1972 - 22 - 676)
وهناك رأى يذهب الى أن هذا الدفع لا يتعلق بالنظام العام على اعتبار أن النظام العام لا يعنيه - مادام من الثابت وجود حق وحدوث اعتداء على هذا الحق - أن يدافع عنه صاحبه أو سواء كما أنه قد يحدث أن تكون هناك وكالة بين المدعى وصاحب الحق الحقيقي أو أن يقوم المدعى بالدعوى على سبيل الفضالة .
إلا أن الأرجح أن الدفع بانتفاء الصفة يتعلق بالنظام العام ، لأن الحكم الصادر في موضوع الدعوى قد يصدر على الخصم الذي لم يمثل تمثيلا قانونيا صحيحا ، فيتمسك بعدم جواز الاحتجاج به في مواجهته على اعتبار أنه لم يكن طرفا في الخصومة التي صدر فيها ، هذا إذا لم ترفه الخصومة باسمه ، أو يتصل مما قام به من تولى السير في الخصومة فتبطل ويبطل الحكم الصادر فيها ، هذا إذا رفعت الدعوى باسمه ، وعلى ذلك ، ولتفادي السير في إجراءات مهددة بالزوال والبطلان يكون من المصلحة العامة أن تحكم المحكمة من تلقاء نفسها بعدم قبول الدعوى التي يرفعها من ليست له صفة في مباشرتها حتى لا تشغل بقضايا مهددة بالزوال أو لا يفيد منها أحد ، وهذا الاتجاه في التفكير يتمشى مع ما يذهب إليه الفقه والقضاء في فرنسا وفي مصر من إلزام المحكمة من تلقاء نفسها بتكليف من يحضر عن الخصوم بإثبات وكالتهم عنهم ، وذلك خشية السير في إجراءات مهددة بالبطلان . (د/ أحمد أبو الوفا ،  المرافعات ، مرجع سابق الإشارة إليه)
ومن أمثلة الدفوع بعدم القبول التي لا تتعلق بالنظام العام الدفع بعدم قبول دعوى منع التعرض لرفعها بعد سنة من حصوله ، والدفع بعدم قبول دعوى الحيازة لرفعها بعد إقامة دعوى المطالبة بالحق ، وعدم قبول دعوى المطالبة بالحق المرفوعة من المدعى عليه في دعوى الحيازة قبل التخلي عن الحيازة لخصمه وعدم قبول دعوى الدائن على الكفيل قبل رجوعه على المدين . (م788 من القانون المدني)
أما الدفع بحجية الشيء المحكوم به فلم يكن متعلقا بالنظام العام في ظل القانون السابق ، وكان ذلك محل نقد الشراح ، وجاءت المادة 116 والمادة 101 من قانون الإثبات توجب على المحكمة من تلقاء نفسها الحكم بعدم قبول الدعوى لسابقة الفصل فيها .
ومن الغريب أن القانون يجيز للخصوم أن يطعنوا أمام محكمة النقض في أى حكم انتهائي - أيا كانت المحكمة التي أصدرته - فصل في نزاع خلافا لحكم آخر سبق أن صدر بين الخصوم أنفسهم وحاز قوة الشيء المحكوم به سواء دفع بهذا البطلان أم لم يدفع ، وهذا النص لا يتسق مع منع محكمة الموضوع من الاعتداد من تلقاء نفسها بقوة الشيء المحكوم فيه ولو كان من اثر ذلك تعرض قضاءها للنقض ، ويناقض قضاء محكمة النقض الذي يقرر عدم قبول التمسك بحجية الحكم السابق لأول مرة أمام محكمة النقض في حالة ما يكون المتمسك هو المطعون عليه . (نقض 29//2/1947 مجموعة القواعد القانونية 5 رقم 158 والتعليق عليه) . (د/ أحمد أبو الوفا ، المرافعات ، مرجع سابق)
أما عن الدفع بانتفاء المصلحة القانونية أو المصلحة الحالة فهما من الدفوع الموضوعية البحتة التي تتصل بأصل الحق ، ولمعرفة تعلقها بالنظام العام يتعين الرجوع الى القواعد الأساسية التي تتصل بنظام المجتمع الأعلى ، فمثلا الاتفاق الذي يحتم على شخصين إيجاد علاقة جنسية غير مشروعة هو اتفاق باطل ، وبالتالي استناد أحد هذين الشخصين على مثل هذا الاتفاق في إقامة دعوى يوجب على المحكمة أن تقضي من تلقاء نفسها برفضها على اعتبار أن العقد مخالف لحسن الآداب .
(حكم محكمة القضاء الإداري 7/6/1949 السنة 3  ص930)
وأنه لا يجوز اتفاق الخصوم على رفع الدعوى مع عدم وجود مصلحة فيها ، وقد حكم بعدم قبول الدعوى إذا قصد بها مجرد الحصول على اختصاص قضائي .
ولا يجوز اتفاق الخصوم على نزولهم مقدما عن التمسك بسائر الدفوع المتصلة بعدم قبول الدعوى ، ولو لم يتصل الدفع بالنظام العام ، وإن كان يجوز هذا النزول بعد ثبوت الحق فيه .