أخطاء الأطباء
قد تحيط ببعض صور الخطأ اعتبارات عملية هامة ، تجعل تقرير المسئولية فيها مصحوبا بجانب من الصعوبة أو التردد ، وأكثر ما تثار هذه الاعتبارات عند تقدير مدى مسئولية الطبيب أو الجراح عن خطئه فى طبه أو جراحته ، وعند تحديد من هو المسئول عن أعمال الهدم والبناء .
الفرع الأول : أخطاء الأطباء
تنبغى التفرقة فى شأن مسئولية الطبيب عن خطئه بين نوعين منه لكل منهما حكمه الخاص فى نظر الكثير من الشراح ، وهما الخطأ المادى والخطأ الفنى .
المسئولية عن الخطأ المادى :
الخطأ المادى هو الخطأ الخارج عن نطاق المهنة وهو الاخلال بالالتزام المفروض على الناس كافة بإتخاذ العناية اللازمة ، عند القيام بسلوك معين ، لتجنب ما قد يؤدى اليه هذا السلوك من نتيجة مشروعة (1) ، ومن المتفق عليه أن الطبيب يسأل عنه فى جميع الأحوال سواء من الوجهة الجنائية أم المدنية ومهما كانت درجته من حيث الضعف أو القوة ، ومن ذلك مثلا أن يجرى الجراح جراحته وهو سكران أو مشلول اليد ، أو بسلاح غير معقم ، أو كأن ينسى فى جوف المريض مشرطا أو ضمادا ، أو كأن يمتنع طبيب المستشفى الحكومى عن مباشرة مريض دون مبرر ، أو يأمر بإخراجه منه رغم أن حالته تستوجب العلاج ، أو قبل أن يستوفى المدة المطلوبة لعلاجه ودون سبب فنى مشروع (2) .
وقد قضى : بإدانة طبيب عيون لأنه كان يباشر عملية لمريض تحرك بغتة ، فضربه بقبضة يده مرتين على صدره ومرة على رأسه ، وكان المريض مصاباً بضغط الدم فتوفى من إجتماع العاملين مع الضرب والمرض ، وقد كانت الإدانة بوصف الواقعة ضرباً أفضى إلى الموت لا قتلاً خطأ ، على أساس أن الضرب لا يعتبر من الوسائل الطبية المعترف بها فى العـلاج ، بل يخضع لحكم الجرح أو الضرب إذا صدر من متهم ليس بطبيب (3) .
المسئولية عن الخطأ الفنى :
ويقصد به أخلال رجال الفن كالطبيب أو الصيدلى بالقواعد العلمية والفنية التى تحدد الأصول العامة لمباشرة مهنتهم ومن امثلة ذلك أن يتولى القيام بعملية طبيب غير متخصص فى الجراحة ، وإذا كان الخطأ المادى من الطبيب لا يثير خلافا عند تقدير المسئولية عنه فإن خطأه الفنى أثار كثيرا من الصعوبة ومن وجوه الخلاف ، فقد ذهب رأى مهجور إلى وجوب تقرير إعفاء الطبيب إعفاء تاما من المسئولية عنه ، من الوجهتين الجنائية والمدنية معا ، أو بالأقل من الوجهة الجنائية فحسب ، وذلك أيا كان نوع هذا الخطأ ومداه .
وهناك رأى أخر يقول " وجوب مساءلة الطبيب عن خطئه الجسيم وحده دون اليسير ، وذلك من الوجهتين الجنائية والمدنية معا ، ويكون الخطأ الفنى الجسيم بمخالفة الوسائل العلاجية السليمة مخالفة واضحة تنم عن جهل بين أو من إهمال جلى لا يصح صدروه من طبيب يشعر بمسئولية إزاء مريضه ، ومن ذلك تسرعه فى التشخيص أو العلاج برعونة أو بإهمال ، ودون الاستعانة بالطرق الضرورية والمفيدة لتكوين الرأى ، وبالوسائل الفنية التى يشير بها الطب الحديث ، أو مخالفته إياها مخالفة فاضحة ، ذلك أن هناك قواعد أساسية فى علم الطب ومبادئ أولية متفق عليها تعتبر مخالفتها خطأ جسيما يضارع سوء النية من حيث وجوب تقرير المسئولية عنها دون غيرها .
أما الخطأ اليسير من الطبيب فى التشخيص أو العلاج فيجب التجاوز عنه لأن الأطباء كثيرا ما يختلفون فيما بينهم ، ومن حقهم أن يتجهوا إلى نظريات متباينة فى مزاولة مهنتهم ، كما أن من حقهم الأقدام على تجربة وسائل علاجية حديثة دون خوف من اتهام جنائى ، ولا وجل من مساءلة مدنية ، وذلك على أساس من خطأ فنى قد يكون غير واضح أو مشكوكا فى وجوده بالمرة .
وقد اعتنق الكثير من شرح القانون الجنائى هذا الرأى الأخير ، وفيهم من يأخذ بقاعدة وحدة الخطأين الجنائى والمدنى التى سلف الكلام فيها ، فذهب إلى أنه لا تجوز مساءلة الطبيب أو الجراح جنائيا عن خطئه الفنى إلا إذا كان جسيما واضحا ، وذلك بخلاف غيره من أرباب المهن الأخرى الذين يسألون عن خطئهم الفنى مهما كان يسيرا ، وبخلاف مسئوليته من الوجهة المدنية التى يصح أن تكون عن الخطأ اليسير أو التافه ، كما تكون من باب أولى عن خطئه الجسيم .
إلا أن جانبا ملحوظا من شرح القانون لا يقبل هذه التفرقة فى تقرير مسئولية الطبيب بين خطئه الفنى الجسيم وغير الجسيم ، بل يذهب إلى وجوب مساءلته مدنيا وجنائيا معا عنها جميعا ، ومهما بدا الخطأ هينا أو يسيرا ، على أنه لا يدخل فى نطاق الخطأ اليسير اختلاف الرأى بين الأطباء ، أو الخطأ المشكوك فيه ، بل لابد من ثبوت الخطأ على وجه القطع دون الترجيح أو الشك ، ذلك أن النصوص القانونية جاءت عامة لم تفرق فى تقرير المسئولية بين خطأ يسير وآخر جسيم ، أو بين خطأ مادى وآخر فنى .
كما أنه يلاحظ أنه إذا كانت التفرقة فى شأن مسئولية الطبيب بين خطئه اليسير وغير اليسير قد قابلت صدى واسعا من أحكام المحاكم ، إلا أن هذه الأحكام لم ترم فى الواقع إلا إلى منع القاضى من التدخل فى بحث النظريات العلاجية المتضاربة والمسائل العلمية الخلافية ، دون رغبة فى المغايرة بين نوع من الخطأ وآخر فى ترتيب المسئولية عنه ، وأخيرا يضيف هذا الرأى أن مسئولية الطبيب عن خطئه الفنى اليسير ليس مقتضاها التسرع فى الحكم عليه بمجرد الشك أو الترجيح ، بل ينبغى إثبات الخطأ بصفة حاسمة ، وذلك إذا خرج ولو خروجا يسيرا عن قاعدة ثابتة مسلم بها ، فإذا ساير طرقا فنية حديثة ، أو نظريات مبتكرة فيها قدر واضح من الجدية أو تقوم على أساس من البحث العلمى السليم فإنه يظل بمنأى عن المسئوليتين الجنائية والمدنية معا ، دون أن يرد على ذلك بأنه لا يصح للقضاء التدخل فى المسائل الفنية الصرف ، فهى تثار فى كثير من القضايا دون أن يحول ذلك دون الاستئناس بآراء الأخصائيين فيها .
خطأ القضاء :
ذهب الغالب من أحكام المحاكم إلى استلزام الخطأ الفنى الجسيم صراحة كأساس لمسئولية الطبيب جنائيا بالأقل ، وظل مضطرداً على هذا بانتظام حتى عهد قريب ، ثم أخذ بعضها يخفف من عبارة استلزام الخطأ الجسيم صراحة ، بل وأخذ يشير فى حيثياته إلى إمكان المسئولية  حتى الجنائية عن الخطأ المهنى اليسير متى كان مؤكدا أو ثابتاً بوضوح .
وقد قضى بأن : من المقرر أن إباحة عمل الطبيب مشروطة بأن يكون ما يجريه مطابقا للأصول العلمية المقررة ، فإذا فرط فى اتباع هذه الأصول أو خالفها حقت عليه المسئولية الجنائية بحسب تعمده ونتيجته ، أو تقصيره وعدم تحرزه فى أداء عمله " (4) ، وقد قضى أيضا " أن مسئولية الطبيب تخضع لقواعد العامة منة تحقق وجود الخطأ مهما كان ذلك ، وكان  خطأ فنيا أو غير فنى جسيما أو يسيرا ، لهذا فأنه يصح الحكم على الطبيب الذى يرتكب خطأ يسيرا ولو أن هذا الخطأ له مسحه طبية ظاهرة (5) ، وقد قضى أيضا : مساءلة الطبيب عن خطأه سواء كان جسيما أو يسيرا مادام الخطأ ظاهرا لا يحتمل نقاشا فنيا تختلف فيه الآراء . (6)
تقدير الآراء السائدة :
إذا استبعدنا نظرية إفلات الأطباء من المسئولية الجنائية إفلاتاً كلياً ، وهى لا تجد لها أنصارا ، نجد أن النزاع يكاد ينحصر فى الفقه الآن بين المسئولية عن الخطأ الجسيم وحده ، والمسئولية عن الخطأ ولو كان يسيراً بشرط أن يكون مؤكدا واضحا ، ولكن ما الفارق بين عبارتى خطأ غير يسير ، وخطأ يسير ولكن مؤكد واضح ، وهل فى الإمكان وضع حد فاصل بين مدلولهما ؟ .. نشك فى ذلك كثيرا ، خصوصا وأن الخطأ الطبى فى العادة لا يكون مؤكدا واضحا إلا إذا كان جسيما ، وأن الخطأ اليسير يكون دائما محلا لاختلاف الرأى بين الأطباء وحتى أن أمكن نظريا الفصل بين الأمرين أليس الأمر مرجعه فى النهاية إلى تقدير القاضى لوقائع كل دعوى على حدة ، وبالأخص إلى نظرته إلى آثار الخطأ منه إلى مدى الخطأ نفسه .
لذا فإن الخلاف بين الرأيين لا يبدو فى نظرنا على خطورة تذكر من الوجهة العملية ، فالخطأ فى تقدير توافره أولا ، ثم فى تقدير جسامته  ثانيا موضوعى صرف بطبيعة الحال ، وتتفاوت الأخطاء وجودا وقدرا فى تقدير الناس تفاوتا ملحوظا ، بل أن الكثير من الأحكام الذى أشار فى حيثياته إلى إمكان مساءلة الطبيب عن خطئه الفنى اليسير ، كان يأبى أن يسلم بأن الخطأ المطروح يسير تافه ، بل كان يصر على اعتباره جسيما طالما كان مؤكدا ، أى كان مدفوعا برغبة الفصل على وجه دون آخر فى الدعوى المطروحة بالذات .
ثم أنه عند التسليم بأن خطأ الطبيب أو الجراح كان فى واقعة معينة يسيرا تافها يصبح من المتعذر عملا فى غالب الأحوال إمكان إسناد النتيجة النهائية إلى هذا الخطأ دون العوامل الأخرى الطبيعية مثل ظروف المريض ، أو طبيعة المرض أو الجراحة نفسها ، وكأنه بجانب صعوبة إثبات توافر الخطأ ستقوم صعوبة إسناد النتيجة المطلوبة العقاب عليها إلى هذا الخطأ بالذات دون باقى العوامل الأخرى فيصبح مناط الصعوبة هو فى إثبات السببية أكثر منه فى التقرير بإمكان المسئولية حتى عند التسليم بتفاهة الخطأ المسند إلى الطبيب أو الجراح .
ومع ذلك - إذا كان هناك بد لتفصيل أحد الرأيين - نميل إلى القول بأن فكرة قصر مسئولية الطبيب الجنائية على خطئه المهنى الجسيم فحسب أدعى فى النهاية إلى اطمئنانه وهو يؤدى عمله ، وإلى أن يتصرف فى المآزق بثقة واقدام لا يشوبهما وجل من عقاب ، وأدعى كذلك إلى عدم تغلغل القاضى تغلغلا كبيرا فى مجاهل المساجلات الفنية البحت للموازنة بين الآراء المختلفة ، التى لابد وأن تثار على أعرض صورة كلما عرضت عليه دعوى من هذا النوع ، وإن فعل ففى اعتدال يسمح للطبيب بقدر ملائم من الحرية فى تكوين رأيه واختيار طريقته وهو ما قد لا يتيسر - فى فهم البعض بالأقل - إذا قيل بالمسئولية الجنائية فى جميع الأحوال وبغير أى تحفظ .
والمسئولية الجنائية بحكم خطورة عواقبها تقتضى الكثير من الاعتدال فى تقريرها ، على خلاف الحال فى المسئولية المدنية التى يصح التساهل فى قبولها أحيانا ، أو بعبارة أخرى أن نظرية ازدواج الخطأ إلى مدنى وجنائى ، إن كان لها بوجه خاص ميدان جدير بالدفاع عنها فيه ، تحف بها اعتبارات دقيقة متنوعة من كل جانب ، وتثار فيها من وجوه الخلاف فى الرأى والتضارب بين المدارس العلاجية المختلفة ما قد لا يثار على الإطلاق أو على هذا النطاق الواسع فى مزاولة المهن الأخرى .
وإذا قيل بأن استبعاد كل ما يتصل باختلاف الرأى بين الأطباء من نطاق المسئولية فيه ضمان كاف للطبيب ، فالرد على ذلك ميسور لأن الطب بوجه خاص علم سريع التطور ، يتصارع قديمه وحديثه صراعا مستمرا ، وتشخيص المرض واختيار العلاج المناسب أمور غالبا ما تتباين فيها الآراء بحسب نوع المرض ودرجة تطوره ومدى مقاومة المريض ... بل قد تتردد من النقيض إلى النقيض عند دقة الحالة ، فضلا عن أنها قد تتطلب متابعة سير المرض يوما فيوم .
إلى جانب ذلك فإن مقاومة الجديد طبيعة عند أهل العلم مأثورة ، ولذا كثيرا ما وجد العلاج الحديث مقاومة إجماعية من عدد ضخم من الأطباء أو قابل اعتراضا من مجموع الأخصائيين والخبراء الذين قد يصرون على رفضه طويلا قبل أن يؤمنوا بفائدته أو يقبلوا عليه فى ثقة واقتناع ، لأنه من العسير فى النهاية ألا يوجد فى تصرف الطبيب وطريقته - عند فشل العلاج أو الجراحة - ما قد يصح أن يعد خطأ مهنيا يسيرا فى نظر طبيب آخر ، بل فى نظر مجموعة كاملة من خيرة الأطباء ، أية كانت أسباب الفشل ودواعيه.
 
بعض ما يراعى عند تقدير خطأ الطبيب : 
على أية حال ينبغى عند تقدير مدى خطأ الطبيب مراعاة اعتبارات موضوعية متعددة ، مثل الظروف الخارجية كتلك التى تحيط به والتى قد تدعوه إلى العمل أحيانا فى ظروف غير مناسبة بعيدا عن الوسائل اللازمة ، ومثل خطورة الحالة وما قد تستلزمه من مبادرة إلى إسعاف عاجل مهما كانت تلك الوسائل قاصرة ، ومثل غموض الحالة أو وضوحها وفى الجملة كافة ظروف الزمان والمكان .
كما ينبغى أن يكون محل اعتبار قوى أيضا فى هذا الصدد المستوى المهنى للطبيب المسئول فإن مسئولية الطبيب القديم ينبغى أن تكون أقسى من مسئولية الطبيب حديث العهد بالمهنة ، والأخصائى فيما تخصص فيه أشد من مسئولية الطبيب العام وهكذا .
الاتجاه الى تشديد العقاب عن الخطأ الفنى .
لم يتوقف التيار الفقهى فى تطورة عند حد المساواة فى المسئولية بين الخطأ المادى والخطأ الفنى ، بل لقد وجد من بيم الفقهاء من نادى توغلا فى هذا الأتجاه ، بالتشديد مع أصحاب المهم فى مساءلتهم عن أخطائهم وذلك ايتنادا الى أن من يمارس مهنته يلتزم بواجب اتخاذ عناية كبيرة ليتوقع النتيجة غير المشروعة ويتجنبها ، فإذا لم يقم بهذا الواجب فإنه يكون قد أساء استعمال الثقة التى أودعتها فيه الجماعة ، ويمكن أن يتسبب بذلك فى كوارث رهيبة ، ولذلك يجب أن تكون مسئوليتة أكثر جسامة من مسئولية باقى الأفراد ، فيقدر القاضى عقوبته بروح أكثر تشدا فى نطاق سلطته التقديرية دون أن يمكن القول بأن هذه الشدة تصطدم مع مبدأ المساواة بي المواطنين (7)
_______________________
(1) نقض 23/ 4/1931 المحاماه سنة 12 ص 197 .
(2) نقض 8/1/1968 أحكام النقض  س 19 رقم 4 ص21 .
(3) محكمة استئناف مصر فى 2/1/1936 ، المحاماة س 13 رقم 334 ، ص 713 .
(4) محكمة الإسكندرية الابتدائية فى 30/12/1943 ، المحاماة س 24 رقم 53 ، ص 78  .
(5) د/ فوزية عبد الستار ـ المرجع السابق ـ ص 538
(6) د/ فوزية عبد الستار ـ المرجع السابق - ص 531 .
(7) د / رءوف عبيد ـ المرجع السابق ـ ص 182 .